المنشور

ثقافة تحويل الإخفاق إلى إنجاز‮..!‬


 
يتساءل الناس بكثير من الاستغراب، واستغرابهم من المؤكد أنه في محله، عن جدوى تقارير ديوان الرقابة المالية التي يبدي فيها الديوان كل عام رأيه المهني على الحساب الختامي للدولة والحسابات الختامية للجهات الخاضعة لرقابته، ويرصد ويشخّص ويقيّم الأداء المالي والسياسات والنظم وإدارة العمليات في هذه الجهات بما يفترض أنه يساعد في النهاية على حسن إدارة المال العام والمحافظة عليه في الوزارات والمؤسسات الرسمية والشركات التابعة للدولة.
 مبعث التساؤل والاستغراب ذلك المشهد المزدوج التي تتحفنا به تلك الجهات التي ورد ذكرها في التقرير الأخير، كما هو الحال تماماً بالنسبة للتقارير الأربعة السابقة، وهو مشهد أقل ما يمكن أن يقال عنه بأنه يجعل المواطن يشعر بأن ذكاءه بات موضع مراجعة، لا لأنه يتوقع أن يشهد بعد كل تقرير “نفضة” و “فزعة” قرارات سريعة وحاسمة تحاسب المخطئ وتصحح الثغرات والأخطاء وما يتبين أنه “معوج” في جهاز الإدارة العامة، ولا لأن هناك مسئولين أمام الثغرات والأخطاء والتجاوزات التي يكشف عنها ديوان الرقابة المالية في تقاريره دأبوا على ممارسة سياسة المراوغة وطرح معلومات مغلوطة ومعطيات ملغومة ليبسطوا الأخطاء والتجاوزات، ولا لأن أصداء هذه التقارير يثبت أن ثقافة الاعتراف بالخطأ ثقافة غائبة، وأن قيمة المساءلة والمحاسبة والحسم حيال من ينحرف أو يخطى أو يهمل أو يفشل مكبلة ولازالت في إطارها النظري.
 بل لأن معظم الأطراف المعنية المسؤولة في الوزارات والمؤسسات الرسمية والشركات التابعة للدولة الوارد ذكرها في التقرير قد تسابقت كالعادة إلى ردود مسهبة وتعليقات مواربة وتصريحات تجميلية وشروح مرتبكة، أهم وأخطر ما فيها أنها تلوي الحقائق لتتجاوز مرحلة تبرير أو دحض ما ورد بشأنها في التقرير إلى مرحلة صادمة غير مسبوقة بتحويل الإخفاقات والتجاوزات المشكو منها إلــــــــــــى .إنجازات” يزعمون أنها مدعاة للتباهي والتنويه بل والإشادة بها، خاصة حينما يستعرض من يقف وراء هذه الصورة عضلاتهم ويتجرأون على التلميح من زاوية أن مجريات العمل في وزاراتهم وإداراتهم هي على أحسن ما يرام وليست محل شك وأنها فوق الشبهات، بل ويكيلون الاتهام إلى واضعي التقرير من زاوية أنهم لا يعرفون بطبيعة نظم وأساليب العمل الجديدة لديهم، وكأنهم بذلك يشككون في حرفية أداء ديوان الرقابة المالية ومهنيته التي هي موضع تقدير.
 ليس من الغريب والحالة كما تقدم، أن تتجاذبنا مشاعر مختلفة الاتجاهات ولكنها تقف أو تلتقي عند حصيلة متشائمة، لأن الصدى الذي ألفناه حيال الشوائب والمخالفات التي يوثقها تقرير ديوان الرقابة المالية هو صدى يبرر الأخطاء بل يدعو إلى التجاوز عنها، ويثبت أن الجدية حتى الآن ليست شرطاً ضرورياً في العمل العام، وأن إيقاظ وجدان المسؤولين المعنيين يتطلب على ما يبدو أكثر من هذه الجرعة المتمثلة فيما يصدره الديوان من تقارير، وكأننا أصبحنا نعيش الأخطاء، نتكيف معها إلى أن بتنا نتلذذ بطعمها، أخطاء عارضة وأخطاء مقلقة على حد سواء.
 قد يكون من المهم أن نذكرّ بأن ديوان الرقابة المالية هو بحسب المادة الأولى من المرسوم الصادر في ٣ يوليو ٢٠٠٢ ،” جهاز مستقل يتمتع بالشخصية الاعتبارية ويتبع الملك”، وهو وفقاً لهذا المرسوم معني بالتحقق من سلامة ومشروعية استخدام المال العام وحسن إدارته في إطار رؤية يؤكد عليها الديوان باعتبــــــــــاره ” جهاز إداري مستقل يعمل بمهنية عالية على مساعدة الجهات الخاضعة لرقابته على تحسين الأداء وتأمين المسائلة وكشف الفساد وتعزيز الشفافية”.
 إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لجهاز رقابي يتبع جلالة الملك مباشرة، فلماذا لا ينظر بالجدية الكافية لنتائج فحص ومراقبة وخلاصة الملاحظات والاقتراحات البناءة التي يعرضها هذا الجهاز في تقاريره من أجل الوصول إلى النزاهة في الأداء العمومي، صحيح أن ديوان الرقابة المالية يؤكد بــأن ” دوره في الرقابة على الأموال العامة وحسن إدارتها أكبر بكثير وأوسع من مجرد الكشف عن المخالفات وضبط المخالفين وتقديمهم للعدالة”، وأن مهامه الأساسية ” مساعدة الجهات الخاضعة لرقابته على أن تدير شؤونها بأسلوب مؤسسي يستند إلى القوانين والإجراءات المنظمة له والتي تساعد تلك الجهات على تطوير أدائها وسد الثغرات التي تستغل في ارتكاب المخالفات والتلاعب بالأموال العامة”، فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تغدو المخالفات والتجاوزات والهدر في استخدام الموارد العامة وبشكل عام الممارسات التي تدخل في تعريف الفساد، كما لو كانت أمراً مقبولا، وأن المنخرطين في تلك الممارسات يتمتعون بحصانات تجعلهم في منأى عن المساءلة والمحاسبة، ومادام الأمر كذلك ليس غريباً أن تتكرر المخالفات تلو المخالفات والتجاوزات تلو التجاوزات كل عام طالما هناك اطمئنان من المتجاوزين بأنهم لن يخضعوا لمساءلات وملاحقات قانونية وقضائية، وأن أقصى ما يمكن أن يتعرض لهم بعضهم وليس كلهم هو إحالتهم الى التقاعد بكل امتيازاته، أو في أسوأ الحالات فصلهم من العمل، ولعلنا نستطيع في هذا السياق أن نلتقط أحدث إشارة في هذا الخصوص وردت في بعض الصحف المحلية، لا نجد تفسيراً لها سوى أننا لازلنا مبتلين بإسكات القانون عن التجاوزات والأخطاء، والإشارة قرأناها في ٣ نوفمبر الجاري وتمثلت في قيام ديوان الخدمة المدنية بفصل ستة موظفين على خلفية ” مخالفات إدارية وجنائية تتعلق بالاختلاس من المال العام والتحرش الجنسي واستغلال الوظيفة للمصلحة الخاصة، والسرقة”.
 أن أول وأهم ما يعنيه ذلك أن هناك جهات وأطراف لا تريد للقضاء أن يضع يده على أمر تلك التجاوزات والانحرافات، ويبدو أن هذه الجهات والأطراف لا تعتبر ذلك مسلمات أساسية يجب احترامها والالتزام بها، ولا تعي أن لتفعيل محاسبة كل من قصر أو أنحرف أو فشل في أداء واجباته ومسؤولياته أو تعدى على المال العام هو قوة دفع وعنوان تطور، ويقوي الأساس الذي تقوم عليه أي دولة، وأن الاستقالة أو الإقالة لا تبرئ المسؤول ولا تغفر له المساءلة عن انحرافه في أداء واجبه أو جنوحه في مسؤولياته، كما لا ينبغي أن تكون الاستقالة أو الإقالة كافٍ للحيلولة دون مقاضاتهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم، هذا اذا أردنا أن نثبت للجميع بأننا أصبحنا حقاً نمضي في طريق الجد من أجل أن تستقيم الأمور ويزول الاعوجاج، وعلينا أن نسلم بأن الهدف ليس تحقيق الغاية فقط، بل الحرص على نظافة الطريق إلى هذه الغاية، وأيضاً نزاهة نقطة الانطلاق إليها.
 أن تقارير ديوان الرقابة المالية ستبقى تتحدث عن مخالفات لا تعد ولا تحصى، وستبقى هناك أجهزة لا تلتزم بتعليمات الديوان وتكرر مخالفاتها، وسيبقى المعنيون بالمخالفات في منأى عن أي نوع من أنواع العقاب، وإذا حصل شيء ما فهو يحصل في مخالفات بسيطة، لا في مخالفات هامة.
 اعتقد والله أعلم بأن المشكلة الحقيقية تكمن في الإجابة على ثلاثة أسئلة : إلى أي مدى نحن جادون على طريق الإصلاح الإداري والمالي، وتفعيل قيمة المساءلة والمحاسبة، وسد منافذ الفساد بالدرجة اللازمة من الإصرار والحزم والسعي الحثيث على هذا الدرب.. ؟
 أما السؤال الثاني فهو إلى أي مدى نحن مستوعبون لدروس الإصلاح ومناهجه وإلى أي مدى نحن مدركون للخلل الراهن في ترتيب المهام والأولويات.. ؟ أما السؤال الأخير، فهو لماذا لا يعطي ديوان الرقابة المالية المزيد من الصلاحيات التي تجعله قادراً دونما إعاقات لتقديم المخالفين وملفات تجاوزاتهم وفسادهم الى العدالة، حماية للمال العام..؟
 لا نملك الإجابة وحسبنا أننا نحاول أن ننبه إلى ما يستوجب الانتباه.. وتذكير ما يستدعي التذكير.. !!
 
الأيام 21 نوفمبر 2008