المنشور

انتفاضة فكرية مطلوبة

منذ نحو عقدين،‮ ‬حين بدا أن الأمر قد استتب لأحادية القطب في‮ ‬العلاقات الدولية،‮ ‬راجت الكتب والنظريات والفلسفات التي‮ ‬تروج لنهاية التاريخ بالانتصار المبين لليبرالية الغربية،‮ ‬التي‮ ‬قيل‮ ‬يومها إنها قد هزمت الأنظمة الشمولية‮. ‬ النابهون من الناس وبعيدو البصر والبصيرة أدركوا،‮ ‬منذ ذلك الحين،‮ ‬أن هذه الأطروحات إنما كانت تؤسس لشمولية جديدة أشد خطورة،‮ ‬شمولية كونية،‮ ‬تجعل الشعوب كلها أمام خيار أوحد،‮ ‬لا ثاني‮ ‬أو ثالث له‮. ‬ هؤلاء النابهون قالوا أيضا إن هذه حال مؤقتة،‮ ‬لأن الأحادية هي‮ ‬نقيض لمنطق الأشياء وللطبيعة السوية‮. ‬كل شيء في‮ ‬الحياة،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك أصغر الظواهر وأكثرها بساطة قائمة على التنوع والتعدد،‮ ‬فما بالنا بالمجتمع البشري‮ ‬الذي‮ ‬يعج بالتناقضات على مختلف المستويات؟ حينها ساد ما‮ ‬يشبه الموضة التي‮ ‬تتحدث عن‮ »‬موت‮« ‬الأشياء أو فقدانها،‮ ‬لذلك سمعنا مصطلحات من نوع‮: ‬موت الموضوع،‮ ‬موت الشعر،‮ ‬موت الفلسفة،‮ ‬موت المؤلف،‮ ‬نهاية الايديولوجيا‮. ‬ لكن النابهين من الناس نبهوا،‮ ‬في‮ ‬حينه أيضاً،‮ ‬إلى أن الموضة الجديدة،‮ ‬أياً‮ ‬تكن،‮ ‬هي‮ ‬محاكاة لموضة قديمة سادت في‮ ‬وقت آخر،‮ ‬ثم نسيها الناس أو أهملوها بعض الوقت،‮ ‬ليخرج من‮ ‬يعيدها إلى الواجهة مرة أخرى‮. ‬ اليوم،‮ ‬بعد مرور نحو عقدين على ذروة الرواج التالي‮ ‬لهذه الأطروحات،‮ ‬يظهر جلياً‮ ‬أنه لا الإنسان من حيث هو موضوع للعلم قد مات أو تلاشى،‮ ‬ولا التاريخ انتهى أو توقف عند محطة أخيرة،‮ ‬فهو‮ ‬يستمر بضجيج أكبر وبحشد لم‮ ‬يسبق له مثيل من المآسي‮ ‬والحروب والنهب والاضطهاد،‮ ‬ولا حتى الايديولوجيا،‮ ‬هذه المفردة التي‮ ‬أصبحت بغيضة لكثرة ما ابتذلت وأزيل عنها طابعها العلمي،‮ ‬قد تلاشت أو انحسر مجال تأثيرها‮.‬ أكثر من ذلك تُظهر الأزمة المالية التي‮ ‬تعصف بعالم اليوم بطلان وزيف هذه الأطروحات التي‮ ‬أرادت وأد فكرة العدالة الاجتماعية ومصادرة أحلام البشر في‮ ‬حياة أفضل تحت حجة نهاية التاريخ‮. ‬ولن‮ ‬يقلل من ذلك القول أن الرأسمالية قادرة على تجاوز هذه الأزمة بسبب الآليات المرنة التي‮ ‬تتمتع بها،‮ ‬فتجاوز هذه الأزمة،‮ ‬وهو قد‮ ‬يكون أمراً‮ ‬مُمكناً‮ ‬بعد حين‮ ‬يطول أو‮ ‬يقصر،‮ ‬لن‮ ‬يعني‮ ‬تخطي‮ ‬الخلل البنيوي‮ ‬الذي‮ ‬لا خلاص منه في‮ ‬نظام قائم على منطق الربح وحده‮.‬ محمد حسنين هيكل شبه قال في‮ ‬مقابلة حديثة أجريت معه،‮ ‬إن الأزمة المالية الحالية تشبه في‮ ‬آثارها وتداعياتها بالنسبة للنظام الرأسمالي،‮ ‬سقوط جدران برلين وتداعياته على النظام الاشتراكي،‮ ‬وهو قال إن التداعيات الكبرى لما‮ ‬يجري‮ ‬حالياً‮ ‬لم تظهر كاملة بعد،‮ ‬وعلينا توقع الأسوأ‮.
 
صحيفة الايام
18 نوفمبر 2008