المنشور

صراعُ الإخوةِ الأعداءِ إلى أينْ ؟!


لم يرَ التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني من خلال نخبه وقواه السياسية الفلسطينية منعطفاً أخطرَ مما نراه اليوم .. ويمثل هذا التشرذم والخلافات على جميع المستويات، ضمن صراعات شخصية، فئوية على النفوذ والهيمنة والإقصاء والاستحواذ. ولا نضيف جديدا إذا بيّنا أن هذا الخلاف بل الانشقاق على وحدة الصف الوطني الفلسطيني يمثل- بلا شك – خير هدية تقدم لإسرائيل، لم تحلم بها الدولة العبرية أبدا منذ تأسيسها. أضحى الآن واضحا لكل فرد من أفراد الشعب الفلسطيني وخاصة سكان غزة المحاصرين، الذين يعانون الأمَرّين. بجانب المواطنين العرب والمسلمين، والرأي العام العالمي المتعاطفين – جميعهم- مع الحق الفلسطيني، أن جوهر هذا الانقسام يعود بجذوره إلى انقلاب صيف العام الماضي، حينما استفردت ‘حماس’ بالسلطة السياسية في قطاع غزة، محاولة تأسيس سلطة ‘إسلامية’ نقية وخالصة، واضعة سكان غزة بمختلف مشاربهم أمام الأمر الواقع، متحدية ليس الغريم الفتحاوي فحسب بل مجمل الجسم السياسي الفلسطيني والشرعية القانونية والدستورية، سالكة بذلك الاستفراد في دربٍ وعرةٍ لا يمكن الخروج منها بسهولة، الأمر الذي تَجَسّد الآن وبكل واضح في فشل حوار القاهرة الأخير بين الإخوة الأعداء؛ فتح وحماس!
وبقية القصة يعرفها القاصي والداني.. فمنذ انقلاب حماس الانشقاقي المشؤوم في 14 يونيو/ حزيران 2007 قامت حرب مفتوحة تجاوزت رفقة السلاح المقاوم والقضية الواحدة. حل الانقسام في الصف الوطني الفلسطيني بشكل لم تشهده من قبل الساحة الفلسطينية، تحولت فيها المناطق التي انسحبت منها إسرائيل إلى سلطتين متنافرتين ؛ سلطة رام الله الفتحاوية في الضفة الغربية وسلطة غزة الحماسية في قطاع غزة، الأمر الذي يجسد الانقسام الجغرافي والسياسي ويحوله الى أمرٍ واقعٍ.
وصل الأمر بهذين الفصيلين المتنافسين إلى قتل وتصفية بعضهما البعض بل وامتلأت سجونهما بعناصر الطرف الآخر. غدت التراشقات الكلامية والتصريحات العدائية والمصطلحات التخوينية سيدة المواقف الإعلامية لكل طرف، الأمر الذي حدا بالأطراف الشقيقة والصديقة من بذل المساعي للبحث عن حلٍ يرضي الطرفين ويعيد وحدة فصائل الشعب الفلسطيني.. حاولت أكثر من جهة عربية رأب الصدع الخطير هذا حتى لا يستفحل، لكن دون جدوى حتى جاء لقاء القاهرة الأخير،الذي بدا فيه شيء من بريق أمل كان يلمع في نهاية النفق وحل شيء من التفاؤل حين راود الأمل الكثيرين من أن اللحمة الوطنية الفلسطينية ستعود إلى سابق عهدها. واستبشر الكل خيرا من حوار القاهرة، حينما بدت فيه قاطرة الحوار سالكة السكة. ولكن فجأة قاطعت ‘حماس’ الحوار متذرعة على عدم إطلاق سراح بقية مسجونيها لدى سلطات فتح .. وعُلّق اللقاء إلى أجل غير مسمى!
على أثر فشل حوار القاهرة غادرت التصريحات الرسمية صمتها مخرجة إلى العلن موقفها ألانتقادي الواضح حيث هاجمت مصر بجانب الرئيس الفلسطيني محمود عباس مباشرة حماس، يحملانها المسؤولية التامة عن فشل الحوار وذلك بتعمدها تعطيل الحوار، خدمة لأجندة إقليمية غير فلسطينية.
جاء هجوم عباس بمناسبة الذكرى الرابعة لرحيل القائد التاريخي ياسر عرفات، متهما حماس بعرقلة المصالحة عن قصد. فيما أعربت مصر من خلال مصدر رفيع المستوى عن استياء بلاده من استفزازات حماس وخلق أعذار واهية تمنع استمرارهم في الحوار، معلقا (المصدر نفسه) أن قادة حماس يدركون أن استمرارها في الحوار والمصالحة سيقودهم حتما إلى التخلي عن السيطرة الاستحواذية في غزة. والغريب أن مراسم إحياء ذكرى عرفات لم تجرِ في غزة بل اقتصرت على الضفة الغربية وحاضرتها رام الله . يبدو أن تكتيك حماس من الشروع بالحوار والانسحاب منه فيما بعد بذريعة عدم إطلاق سلطات فتح للمعتقلين الحماسيين لديها كان مبيتا، وقد يكون بسب الفترة الانتقالية للإدارة الأميركية الجديدة. وارتأت ‘حماس’ أيضا الانتظار حتى يحين الثامن من يناير المقبل، موعد انتهاء ولاية عباس الرئاسية(الكمين المنصوب له).أما مسألة عدم إطلاق سراح السجناء فقد أفادت ‘فتح’، على لسان عباس أنه ليس لديهم أي معتقل سياسي . فالمسجونون المعنيّون متورطون في حيازة أسلحة غير مرخصة أو تهريب أموال، الأمر الذي يعتبر خرقا للقانون الفلسطيني. ومن جهتها ردت ‘حماس’ الصاع صاعين على تصريحات عباس الهجومية متهمة إياه بالتفريط في المقاومة و’الثوابت الوطنية’ والارتماء في أحضان العدو الصهيوني!
والمشكل الذي يكاد أن يقوّض صِدقية القضية الفلسطينية ويقلل من تألقها هو أن هناك نهجين سياسيين متنافرين عصيّين على الالتقاء في منتصف الطريق، الشرط الضروري للوصول إلى اتفاق بين خصمين عنيدين مختلفين في الرؤى والنهج.. فحركة فتح التي تمثل الخط الليبرالي الوطني المعتدل، تنطلق أساسا من نهج واقعي يقارع استراتيجية إمكانية الحل السلمي مع إسرائيل وفكرة الدولتين المتجاورتين؛ إسرائيل(القائم) وفلسطين(القادمة)، ضمن مختلف أشكال النضال والمقاومة الوطنية بما فيه استمرارية الكفاح المسلح إن لم تؤدِ المباحثات السلمية إلى تشييد الدولة الفلسطينية المستقلة والمأمولة. بينما حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مستفيدة من الشعور العاطفي الديني العارم والسائد في هذه المرحلة، ترى نفسها البديل الذي يسير على نهج الإسلام القويم وأن هدفها النهائي تحرير كامل التراب الفلسطيني وتشييد المجتمع الإسلامي المثالي على أرض فلسطين وعاصمتها القدس الشريف، مقتنعة بيقينية غريبة على استحالة الحل السلمي بين إسرائيل والشعب الفلسطيني.
ما أشبه الليلة بالبارحة .. حينما كان الوعي القومي السائد سيد الموقف العربي الرسمي والشعبي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وما تمخضت عن ذلك الفوران القومي أنظمة وطنية قامت بإنجازات مهمة وعديدة وإخفاقات كثيرة أيضا بسبب نخبويتها ونهجها الاستبدادي غير المؤسساتي، ها هي ‘حماس’ في الألفية الثالثة، توظف الشعور الديني الجارف مستندة على الوعي الديني الصرف كرافعة سياسية (أيدلوجية) عقائدية لمجاراة عسف إسرائيل، ولو أنها لم تنجزْ حتى الآن أي هدف استراتيجي أو مرحلي، عدا وضع العراقيل أمام المباحثات السلمية والعناد العدمي وإطلاق الصواريخ العبثية في أوقات وتوقيت غريبين،العملية المؤدية إلى ردود فعل عنيفة تتمثل في غارات إسرائيلية تحرق الأخضر واليابس. إضافة إلى تخندق ‘حماس’ حول شعار خيالي لا يتحقق على أرض الواقع وهو التخلص من اليهود وإجلائهم من كامل التراب الفلسطيني! ولعل قادة ‘حماس’ ونخبها تدرك جيدا أن المصالحة تعني الانقياد إلى الحل السلمي المطروح، الذي لا يتطابق مع رؤيتها وبرنامجها الاستراتيجي. على أية حال..
بات الآن واضحا خطورة الوضع في غزة، ليس فقط بسبب أنها تغرق في ظلام دامس بعد أن قُطعت عنها الكهرباء والماء والمؤن، بل على أثر الانفلات العسكري بين إسرائيل وسلطة حماس في غزة واحتمال أن ترتكب إسرائيل مجزرة وحربا شاملة ضد حماس سيدفع ثمنها سكان غزة العُزّل،الذين شاءت الأقدار أن يتواجدوا بين كماشتي؛ سلطة حماس وحصار إسرائيل.
 
الوقت 15 نوفمبر 2008