المنشور

ديـوان الرقابة الإدارية‮..‬

 
(١)

 نبارك لمجلس الخدمة المدنية إعلانه الصريح والواضح واللافت وغير الملتبس الذي قال فيه بأنه بدأ “مرحلة العمل الجاد الهادف إلى تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها” .. !! ونحمد الله بأن هذا المجلس في تصريح هو الآخر هو صريح وواضح ولافت وغير ملتبس أعلن أنه ملتزم بإعادة هندسة العمل في الجهات الحكومية، وظهر لنا بأنه بات مقتنعاً الآن بمبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وربط هذا بذاك.
لا لزوم للتذكير أن مجلس الخدمة المدنية أنشئ  بموجب مرسوم صدر في أبريل 1982، وأن مهامه تتلخص في وضع السياسات العامة المتعلقة بالتطوير الإداري في الجهات الحكومية، وتطوير التنظيم الإداري للدولة، وجاء الاجتماع الأول لهذا المجلس المنعقد في ٥ نوفمبر الجاري بعد إعادة تشكيله لا ليذكرنا فقط بأن هذا المجلس لا زال قائماً وإنما ليؤكد لنا في رسالة لافتة بأن المجلس قد عقد العزم على أن يبدأ العمل الجاد في الارتقاء بمنظومات العمل في قطاعات الدولة مع إضافة من الواضح أنها جديدة أضافها المجلس إلى مسؤولياته واختصاصاته على رأسها إعداد جيل قادم مؤهل من الكفاءات البحرينية والصفوف القيادية المتجددة تماشياً مع الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030 للوصول للحكومة الديناميكية الكفؤة”.
دعونا نبتعد عن فهم أن كلام مجلس الخدمة المدنية عن بدء مرحلة عمله الجاد، بأنه يعني أن المجلس لم يكن جاداً بما فيه الكفاية طيلة السنوات الماضية، وأن اعتقدنا ذلك فهو في إطار الظن، وبعض الظن إثم ..!
وما دمنا نريد أن نأخذ ذلك الكلام على محمل الجد، فإنه بصرف النظر عن النية والرغبة اللتين تشكلان خلفية ذلك الكلام ، كان بودنا لو حاول مجلس الخدمة المدنية أن يسمى الأشياء والأفعال بأسمائها بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض، وبادر إلى تسمية طبيعة المرحلة التي سبقت “انطلاقة عمله الجاد” خاصة أنه أصبح يشهر تبنيه “استراتيجيات تحرك جديدة في عمله تتوافق مع الرؤية الاقتصادية المستقبلية للبحرين التي دشنها جلالة الملك” واذا كان ذلك توجهاً جاداً بما تعنيه الجدية من معنى وليس ركوباً على موجة الرؤية الاقتصادية، فإنه يتعين على المجلس اعتماد ثقافة جديدة في عمل الدولة نتجاوز بها مفهوم الإدارة العامة البيروقراطية إلى مفهوم إدارة الأعمال التي تتخطى الهيكليات القديمة القائمة على المركزية والحصرية والانضباط الشكلي والموازنات الملتبسة وتغييب الشفافية وتوصلنا إلى المناخ المحفز للريادة والابتكار واستثمار الاقتصاد المعرفي ، ثقافة تقوم على أساس أن الإصلاح الإداري ليس فقط عدداً من المشاريع والبرامج المعدة للتأهيل والتطوير والتدريب، هو أبعد من ذلك، هو مناخ عام يسمح لنزعة التطوير والإصلاح أن تشق مجراها بانسيابية لتقتلع الثقافة الإدارية السائدة وتوقف الهدر الحقيقي للأموال والإمكانات والطاقات وتضع الرجل المناسب في المكان المناسب.

 (٢)

 مجلس الخدمة المدنية في اجتماعه الأول يقرر استحداث إدارة للرقابة الإدارية تختص بــ ” القيام بأعمال الرقابة الإدارية للتأكد من التزام الجهات الحكومية بتطبيق قانون الخدمة المدنية، واللوائح الصادرة بهذا الشأن ، بالإضافة إلى اكتشاف حالات التسيب الوظيفي، والمخالفات الإدارية لاتخاذ ما يلزم بشأنها”.
لنا أن نتحفظ بطبيعة الحال على تلك الخطوة إذا كانت تستهدف سحب البساط من أي جهد منتظر يراد به إحياء مشروع إنشاء ديوان مستقل للرقابة الإدارية ، وهو المشروع الذي يشكو من التعقيد والجمود والتسطيح، وكان المأمول أن يهيأ هذا المشروع لقرارات ناضجة سديدة ذات رؤية مستقبلية بعيداً عن ضغط الزمن وأصحاب المصالح ، ومبعث التحفظ هو أن يصل سقف المشروع إلى حدود لا تتجاوز إنشاء إدارة مصغرة تابعة لديوان الخدمة المدنية، وهو الأمر الذي يخشى معه أن تبقى المنهجية الإدارية المتبعة التي أنتجت الحمل الثقيل الذي نعاني منه حالياً، والمرجو حقاً أن يكن ذلك في إطار الظن، وبعض الظن إثم.

(٣)

 مرة أخرى، ثالثة، ورابعة، وأكثر، نجد أنفسنا أمام قرار مجلس الخدمة المدنية إنشاء إدارة للرقابة المالية، مضطرين إلى استدعاء الأصل في مشروع الديوان المستقل للرقابة الإدارية.
 الأصل هو ميثاق العمل الوطني، فهو الذي قضى بإنشاء هذا الديوان ونص عليه في الفصل الثالث وحدد أهدافه في : تغيير فكر الإدارة العامة، وإحكام الرقابة على الاستغلال الأمثل لموارد ومرافق الدولة، والتحقق من التزام كافة العاملين لقيم وأخلاقيات وسلوكيات العمل بما يحقق الكفاءة والإنتاجية في الحكومة، ويضبط الانحرافات والتجاوزات والخروقات للقوانين والأنظمة والتحقق في قضايا الفساد الإداري والممارسات الخاطئة للأجهزة التنفيذية.
ولعلم الجميع فإنه يفترض أن يكون الميثاق الوطني المرجعية في المسيرة الوطنية، وهو حسب المذكرة التفسيرية للدستور دليل عمل المستقبل والأساس الملزم للدولة في تطوير نظمها القانونية .
من تلك الزاوية فإن رفض أو تعطيل أو تمييع مشروع إنشاء ديوان مستقل للرقابة الإدارية يعني مخالفة صريحة للميثاق الذي صوت عليه شعب البحرين بما يشبه الإجماع.. !!

 (٤)

 الموقف المذكور من إنشاء ديوان مستقل للرقابة المالية هو أيضاً مخالف لأمر ملكي، ونذكر من يميل الى النسيان أو له مصلحة فيه أن عاهل البلاد حفظه الله في خطابه بمناسبة العيد الوطني في 16 ديسمبر 2005 أعلن بأنه أصدر أمراً “  بإنشاء ديوان للرقابة الإدارية من منطلق تعزيز الكفاءة والنزاهة في أعرق وأقدم إدارة حكومية”.
وما نفهمه أن تتبنى الجهات الرسمية معاني توجيه العاهل ورؤاه وأوامره، وتعتبرها أساساً لبرنامج عملها، خاصة أن كانت هذه المعاني والرؤى منطلقة من ميثاق عمل وطني، ومشروع إصلاحي لجلالة الملك.

(٥)

 إذا قبلنا التبريرات المطروحة الآن والتي تسوغ عدم الحاجة إلى إنشاء ديوان جديد مستقل للنهوض بمهام الرقابة الإدارية، وارتباط الأداء المالي بالإداري، وتعذر الفصل بينهما، فإنه من غير الطبيعي ومن غير المقبول تقزيم مشروع الديوان المستقل للرقابة الإدارية ليكون مجرد إدارة تابعة لمجلس أو ديوان الخدمة المدنية، ولكن يمكن القبول بتعزيز صلاحيات ديوان الرقابة المالية الذي اضطلع بالمهام التي أوكلت إليه باحترافية ومهنية عالية ليضاف إلى مهامه المتعلقة بضمان سلامة النشاط المالي وحسن استخدام المال العام في الأغراض التي خصص لها، مهام جديدة هي القيام بالرقابة الإدارية لضمان كفاءة الأداء وحسن استخدام السلطة والكشف عن الانحراف أينما وجد.
وإذا كان ذلك هو خلاصة الرأي الذي خرجت به قبل نحو أسبوع لجنة الشؤون التشريعية والقانونية بمجلس النواب فإن الذي لا يجب أن يغيب عن بال هذه اللجنة، بل ومجلس النواب برمته ضرورة الدفع باتجاه تعديل قانون إنشاء هذا الديوان بما يعطيه المزيد من القوة والصلاحيات والإمكانيات التي تمكنه من مواجهة الضغوط أو المناورات من قبل أي من الجهات الحكومية على عمله الرقابي حينما تتضارب مصالحها مع تقارير الديوان، أو من النواب الذين حتى الآن لم يتعاطوا أو غير قادرين على التعاطي مع تقارير ديوان الرقابة المالية بالشكل أو بالعمق المطلوب الذي يفعّل دورهم الرقابي الحقيقي.
 

الأيام 14 نوفمبر 2008