المنشور

قيادة الديمقراطية العالمية

لن يستطيع الانتصار (الديمقراطي) في الولايات المتحدة أن يمثل شيئاً ديمقراطياً عالمياً، إلا بوضع حد لسياسة الحروب التي شـُنت في العالم الثالث والتي كانت بمثابة تتويج لأخطاء السياسة الأمريكية والغربية خلال نصف قرن مضى، وكذلك وضع حد لسياسة رفض الحوار مع بعض الدول المهمة ووضع حد لسباق التسلح العائد بخطورة ورعب على البشرية. 
 
ومن الواضح ان الطبقة السياسية المسيطرة على إنتاج العلاقة الاستغلالية مع الشعب الأمريكي العامل ومع شعوب العالم الثالث العاملة لمصالح الشركات الغربية، ليست لديها إصلاحات جذرية في ذلك، ولكن هي سياسة إعادة التوازن للسياسة الأمريكية بعد أن وجهها الجمهوريون خلال السنوات السابقة إلى أقصى اليمين.
لقد قامت هذه السياسة على مدى العقود على ضرب مواقع الرأسماليات الكبرى الحكومية في الشرق خاصة الاتحاد السوفيتي، فقامت السياسة الأمريكية باستنزافه حربياً بشكل سلمي عبر سباق تسلح مخيف أهدر فيه الاتحاد السوفيتي ثروات ضخمة، ثم تم جره إلى حربِ إنهاكٍ ضارية في افغانستان، تفكك بعدها وتحول إلى دول وأسواق مفتوحة جلبت المليارات للشركات الأمريكية والغربية. وهو ما تقوم به السياسة الأمريكة الراهنة تجاه إيران وسوريا عبر إنهاكمها بسباق تسلح عقيم لا تستطيعان مجاراة الغرب فيه.
وكانت الصين قد رفعت الراية البيضاء ودخلت المشروع الرأسمالي العالمي المفتوح، وبسبب ضخامة أسواقها وعدم انجرارها لميزانية تسلح كونية استطاعت أن تتقارب مع الدول الرأسمالية الكبرى في الصناعات الاستهلاكية غالباً.
مثلما غدت أوروبا الشرقية ساحة مفتوحة لهذه الشركات ولتدفق الأرباح لما وراء الأطلسي.
كما رُفع الحظر عن نمو الرأسمالية الحرة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وأُزيحت الأنظمة العسكرية البالغة السوء في تلك القارة، ولكن دول القارة توجهت لليسار الديمقراطي، وهذا لا يضير السياسة الأمريكية كثيراً، لأن تلك السياسة تقوم بإصلاحاتٍ عميقة في البنى الإقطاعية الزراعية والحكومية البيروقراطية المتخلفة، مما يعني توسع الأسواق للبضائع الأمريكية كذلك.
فيما عدا نموذج فنزويلا الذي يجعل الدولة تقوم بدور مهيمن شمولي وهو نموذج تجاوزه العالمُ شرقاً وغرباً.
كما أن الدول العربية النفطية واصلت دور البقرة الحلوب للصناديق الأمريكية والغربية، غير قادرة على التصنيع والتغيير الاجتماعي العميق الذي يستثمر المداخيل الكبيرة بل هي تتآكل في حروب أمريكا الكثيرة وفي أزماتها كذلك!
إذاً كانت التحولات السياسية في أغلبية دول العالم مفيدة للاقتصاد الأمريكي ومع ذلك كله فإن الأزمة الاقتصادية الأمريكية التي امتدت للعالم بسبب امتداد شبكة الاستنزاف الأمريكية عبرت عن فشل هذه الهيمنة الاقتصادية الكونية.
وهذا بسبب ان عالمية الاقتصاد الأمريكي هي عالمية مكرسة لاقتصادها البذخي الداخلي وللانفاق العسكري الهائل وليس لتوسيع الإنتاجين الوطني والعالمي.
ولا عجب هنا أن تتفوق دولة نامية كالصين في مضمار النمو الاقتصادي وهي لا تمتلك موارد أمريكا وثقلها في الصناعات الثقيلة والتكنولوجية، فقط لأنها كرست مواردها للسوق المنتجة، وليس للبذخ والعسكرة.
لقد أعطاها الاقتصادُ الحكومي إمكانية التخطيط الاقتصادي الوطني الواسع النطاق ولآفاق زمنية كبيرة، والتحكم في الاستهلاك الفردي خاصة، والاستفادة من كل الطرق الاقتصادية الرأسمالية الحرة والموجهة كذلك.
إذاً لن تنفع أمريكا مرة أخرى عمليات استنزاف موارد الدول الأخرى وجلبها لاقتصادها، كذلك فإن الدول الأخرى شعرت من درس الأزمة الاقتصادية الأخيرة ذات المظهر النقدي، بأن الأمور بحاجة إلى تغيير في المركز المسيطر عالمياً الذي تتقلقل سيطرته اقتصادياً وسياسياً.
وهذا التغيير لن يكون سوى بتوسع مساحات التطور الاقتصادي الحر حقاً في دول العالم الثالث، وتوجهاتها نحو التصنيع، والتحديث التكنولوجي، وزيادة قوى العمالة الوطنية في كل بلد وتعميق تطورها.
لكن وعي القوى الرأسمالية المتحكمة في عالم الاقتصاد سواء في المركز الأمريكي أم في الدول النامية، اتجه فقط لإنقاذ حيتان السوق وإيجاد اندماجات بين البنوك والشركات، مما يوجه الأمور نحو أزمة أكبر لاحقاً، وسوف تتوسع لتصل إلى قطاعات الإنتاج.
فهل سوف تتوجه الإدارة الأمريكية الديمقراطية إلى برامج ديمقراطية على مستوى الداخل الأمريكي وعلى مستوى العالم؟
يُلاحظ بأن برنامج الرئيس الجديد يتوجه لمساعدة الطبقة الوسطى الأمريكية ولعدم التحجر عند مصالح شركات السلاح والنفط الكبرى التي كانت مرساة الإدارة السابقة والتي جعلت السفينة الأمريكية تغوصُ مقدمتـُها بعمق في محيط الإفلاس.
لكن هذه الشركات لها طرق في تحريك الأمور نحو مصالحها، كافتعال معارك بين أمريكا وبعض الدول في العالم الثالث، وتهييج الدول الاشتراكية سابقاً وخاصة روسيا من أجل سباق تسلح جديد مروع ومدمر.
وفي برنامج الرئيس الجديد لا تزال أمريكا هي بؤرة العالم التي يجب أن تتدفق نحوها رؤوسُ الأموال وتتوجه منها البضائعُ الاستهلاكية والعسكرية، وهو ما يجعل الكثير من جذور الأزمة الاقتصادية راسخاً.
ومن الصعوبة أن يقترب الديمقراطيون الأمريكيون من اليسار الأوروبي ومن الاشتراكية الديمقراطية العالمية، فقد كانت لهم جذور هائلة في العداء لهما، وحتى الليبرالية تمثل لأقصى اليمين شراً كبيراً، مما يجعل الصراع السياسي العميق والديمقراطي الأوروبي بين اليسار واليمين، غير مطروح على جدول أعمال السياسة الأمريكية الداخلية لسنوات عديدة قادمة، ولكنه قادم، ولن يستطيع الحزب الديمقراطي أن يمتنع عن مقاربة الاشتراكية الديمقراطية طويلاً.
ولهذا فإن جدول مجابهة الدول الشرقية غير الديمقراطية تماماً أو الشمولية، أو التوسعية، كروسيا وإيران وسوريا وإسرائيل، سوف يستمر، لتتخلى هذه الدول عن طموحات التوسع، وبضرورة الانحصار في حدودها.
ومع إعلان الرئيس أوباما تنفيذ الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية تكون إحدى المواجهات العالمية قد استمرت واستمر استنزاف الموارد للسلاح.
وهي نقطة سوف تستفيد منها قوى اليمين للعودة، خاصة مع تراجع الجمهوريين ومحاولتهم العمل مع الديمقراطيين.
تعتمد الديمقراطية العالمية توسعها على قوى الرأسماليات المنافسة والشرقية خاصة ومدى استيعابها لدروس تعثر الغرب، ومزاوجتها بين الديمقراطية وتوجيه الدول والقطاعات العامة للاقتصاد، وتطوير وضع الطبقات العاملة معيشة وثقافة حديثة. فسيكون القرنان الراهن والقادم هما قرنا صعود الشرق الجديد.
 

أخبار الخليج 14 نوفمبر 2008