المنشور

الحصاد المر للمرحلة (2)

تتشكل علاقة هيمنة من قبل عالم الدين المحافظ على الحداثي التقني التابع.
مثلما ان الموظف التقني في أجهزة الدول خاضع للبيروقراطي السياسي البدوي، أو الضابط القروي الذي استولى على الحكم في المدينة، ليعيد إنتاج العصور الوسطى والإقطاع السياسي.
وكلمات الديني هي سقوط الشيوعية والرأسمالية والحداثة، ويقدم نموذجَ قريته المتخلفة كنموذجٍ صالح لكل الإنسانية، رغم أن هذه القرية تتفتت تحت ضربات التلفزيون والانترنت والرقص الشرقي.
لكن كيف يهيمن الديني على وعي التقني خريج الجامعات؟ يهيمن عليه مثلما يهيمن مختار القرية الذي صار الرئيس أو قائد الشعب على المناهج والكوادر التقنية، ويحدث في هذه المرحلة السياسية تبادل للموقعين، في لعبة كراسي متخلفة.
وعي التقني هو وعي انتهازي قابل لتقديم خدماته لكل الأطراف، وفي حالة جوعه أو طموحه الزائد عن الحد هو مع الثورة المظفرة، وفي حالة شبعه وتعلقه بالكراسي، هو مع الاستقرار والأمان والتقدم الوطيد.
إن جذر المسألة يبدأ من المذهبية السياسية، فهي كارثة المرحلة، والقنبلة الهيدروجينية التي سوف تنفجر في القادم من أيام الشحن الساخن، ولا تكتشف خطورتها للناس العاديين إلا حينما تطبق على أعناقهم في أحيائهم وأرزاقهم، فهؤلاء لا يعرفون التاريخ إلا بالممارسة المريرة، وما داموا يجدون ان الخبز يُباع بالسعر المناسب فالمستقبل لا قيمة له. (تحضرني هنا صرخة السلفي المعتزلي للعامة المشغولين بالحصول على لقمة العيش في بدء الدولة العباسية: كلما حدثناكم عن الفيء تسارعتم للكلام عن سعر البقول!). المثقف التقني له أجنحة من أرصدة ومن ألاعيب كلامية يستخدمها وقت اللزوم.
علينا أن نفرق بين المذهبيات السياسية التي تشبه الممثلين الثانويين (الكومبارس) وبين المذهبيات السياسية المركزية، ففي المراكز يجري تعبئة الثانويين بالسائل المصدر.
في المراكز يتمُ إنتاجُ القنبلة الهيدروجينية السياسية، ويتمظهر ذلك في كون النظام المذهبي السياسي، الطائفي بصريح العبارة، لا يقبل بالديمقراطية، ويحتفظ بالعرش ومكاسبه الفائضة لبناً وعسلاً.
وقد جعلته الثرواتُ المعاصرة ولكنها مواد خام ثمينة بأنه اتصل مع السماء بحبل وثيق، فليست الثروة سوى إشارة لهذا كما يتوهم!
ولهذا له مشروعاته السياسية الكبرى المتمثلة في اختراق الخرائط السياسية والسيطرة على بلدان، ويعتمد في هذا على قوته العسكرية وثقله السكاني الكبير، ويتوهم انهما كافيان لتحقيق مشروعاته.
فيتم تحريك المنطقة وبيادقها الثانوية المختلفة، التي تتوهم أنها تشتغلُ في استقلال وحرية.
وهذه البيادق لا تقول إنها مجرد توابع سياسية للمركز بل انها تنطلق من مبادئها، ومن حرياتها الفكرية المستقلة، في حين ان هذه البيادق ظهرت مع ظهور هذه الأنظمة ونمت من خيراتها ومن دعاياتها ومراكز تثقيفها، وكانت في لحظة الصعود المليء بالنشوة، والأحلام العريضة بالسؤدد السياسي، وبالانتصار المذهبي الساحق!
إن الخطورة هنا تكمن في تحويل سياسة التبعية إلى مبادئ دينية، مرتبطة بما هو مقدس لدى الناس. فهي لا تقول إن هذا علاقة سياسية فيها مصلحة وانها خاضعة لأحكام العقل من تعاون ونقد واستقلال وتباين يصل أحياناً للفراق، ولا تعني التهييج المقدس والسير وراء المركز في كل ما يقوله.
لكن علاقة المركز والطرف التابع تنفي هذه الإمكانية الجميلة، وتنفي ظهور مركزين متساويين.
ويمكن أن ينطبق ذلك على بلدان صغيرة لا تمتلك قوة فكرية مستقلة ذات جذور ضاربة في الأرض، لكن في بعض البلدان الكبيرة، ذات الجذور الفقهية والسياسية وللدولة تاريخ عريق، يختلف الأمر بعض الأختلاف، فيمكن أن يجري فيها ظهور قوى مستقلة من ذات المذهبية، لكنها ذات آفاق ورؤى تتيحُ لها تبصر المستقبل، فلا تمشي كالعميان.
لكن لحظة صعود المركز لا تستمر خاصة إذا تعارضت مع سير الغرب الديمقراطي أو الدكتاتوري المسيطرين. فالغرب شئنا أم أبينا هو قائد الكرة الأرضية في هذه العقود والقرون التي سبقتنا، وعلى مدى سير المراكز الطائفية في عملها السياسي وتقاربها مع الحداثة والسلام والديمقراطية تكون نجاتها، وأما غير ذلك فيكون هلاكها!
وإذا ربط المركزُ السياسي المذهبي القائدُ اتباعَهُ بسياساتٍ طائشة وحروب وصراعات فهي الكارثة، فهو كمركز يعملُ على سيادته، ولا يقبلُ بالسلام الوطيد في المنطقة التابعة له افتراضاً، فيشتغلُ الأتباعُ بما يعمق ذلك لكن من خلال أطروحات تجد ألوانـَها الخاصة في كل بلد!
وإذا كان الصعود مع المركز حالماً وشعرياً ورومانسياً بهيجاً فإن النزول مع المركز لا يكون إلا مأساوياً ومحطِماً.
إن المراكز الشمولية المذهبية في الشرق تتلقى ضربات غربية مستمرة ومتصاعدة، فحتى حليف الغرب لا يسلم من هذه الضربات السلمية، فالغرب لم يعد بحاجة قوية ماسة له، وأصبحت سرعة دوران الأرض قياسية في هذه العقود، وكلما قارب الحليفُ الغربَ في كيانهِ السياسي التحديثي نجا، وكلما عاكس ذلك تدهور وسقط.
ومن هنا فإن جعجعة المثقف التقني عن أصالة الشرق ومبادئه السرمدية المخالفة للديمقراطية والعلمانية، هي لعبة مصلحية ذاتية، يقوم بها لتمشية مصالحه إلى حين، وحين تقع الكارثة، فلا تنفع صرخات مثل صرخات مذيعي صدام، وبرامجهم التلفزيونية.
والمتضرر الأكبر هو الجمهور العادي الذي وثق بالمركز ودعايته كما وزعه بينه وكيلُ أعمالهِ الخاص، الذي ربط بين المقدس والسياسة، وبين المركز والفرع، وبين الإلهي والدنيوي، وجعل كل ذلك بمنأى عن ضربات الكفرة والملاحدة!
لكن الضربات قد جاءت، وكلما اتسعت دوائرُها زادت خسائرها وكوارثها.
هكذا انهارتْ مراكز عدة، سابقاً، وسوف تتجدد مع مراكز لاحقة، ومن لا يتعلم من الماضي، لا يعش في المستقبل.
وكلما تشددت الجماعة في الارتباط بالمركز لحظة الضربة العاصفة، وفي زمن انهيار المركز تعمقت ضحاياها واشتد بلاؤها، وعظمت خسائرها، وغدا الخروج من هذه السقطة مؤلماً وطويلاً، وكثرت بينها الانقسامات والتصدعات.
وكلما احتاط الفرع واستقل، ونأى بنفسه عن الميكانيكية النقلية السياسية، وربى أعضاءه على العقل وفهم البنى المركبة والمختلفة للبلدان والحركات، واعتمد على شعبه، كانت خسائره أقل، ونهوضه المستقبلي أبكر.

صحيفة اخبار الخليج
12 نوفمبر 2008