المنشور

الجريمة والعقاب

حين يرتكب مجرمٌ جريمة وهو بلا مبادئ لا يغدو لها أي أثر في نفسه، ولا تقود إلى أي تراكم أخلاقي في ذاته الضحلة الفارغة.
إنه فرد مجرد يسوّقُ جريمتـَهُ بكلمةٍ بسيطة (مصلحتي).
وقد عملت الأديانُ خلال ألوف السنين للتحذير من هذه الحالة العدمية، لخطورتها على العيش وعلى الأخلاق.
لم تكن الأديان تمتلك زنزانات الحبس الانفرادي والمقاصل، كانت تشتغل في عالم أخلاقي فكري.
الجنة والنار، يوم الحساب، البشير والنذير وغيرها كلها أدوات للامتناع عن الجريمة بكل صنوفها وألوانها. جرائم الاعتداء على الغير، جرائم القتل والعنف والإيذاء لبشر مسالمين، كل هذه الوسائل الخطرة والمضرة لأهداف شخصية وعامة تمشي فوق الدم للوصول إلى مصالحها.
ثم تشكلت أدوات العقاب الدنيوية من خلال الدول المستبدة العنيفة في معظم الأحيان فردعت بعض الردع لكنها لم تكن تستطيع القضاء على الجريمة، لأنها هي نفسها تقوم على الجريمة وعلى الاعتداء على الغير وعلى الاستغلال، لكن هذا لم يكن يجيز للآخرين القيام بنفس أدوار هذه الدول، وهم يبنون عالماً مغايراً يستبعد الجريمة من برنامجه.
وقد وَجدَ كثير من الدينيين والسياسيين انهم يقومون بجرائم باسم الدين والمذهب وباسم حركاتهم، وقد برروا ذلك بأن الله معهم!
دولٌ وحركاتٌ كثيرة لدينا في التاريخين القديم والحديث تقوم بهذه الأفعال، وتعتدي على الناس والحرمات والأموال، ثم لا تجد أي غضاضة في أفعالها هذه، ولا تخاف من نار، أو من حساب، وتصرخ بالإيمان والقرآن.
لحسن الحظ فإن حركات دينية كثيرة تجنبت سفك الدماء والأعتداء على البشر، واعتبرت ذلك خطأً جسيماً، ولم تفكر في عبور الخط الأحمر هذا. وحاسبت كل شخص قام بهذا دنيوياً، قبل أن توكل أمره لعلام الغيوب. نحن نفخر بأن في تاريخنا الإسلامي من وقف بقوة ضد الهدر في الدم والكرامة.
ثمة هنا إيمان عميق بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب.
لكن حركات ودول أخرى كثيرة رفعت لافتات الدين زيفاً، وعاقبت وعذبت البشر وحرقت بيوتهم وأعمالهم ولم تعترف بغيب وحساب أخروي، رغم أن أعضاءها ومسئوليها يصلون كل يوم، ويتكلمون باسم الدين!
ونجد في الحركات الشيوعية والاشتراكية والقومية من قاموا بمثل هذه الجرائم، لكن الكثيرين منهم لم يؤمنوا لا بجنة ولا بنار، ولا بثواب ولا بعقاب!
وكانوا يعملون لأغراضهم السياسية المحضة مبررينها أخلاقياً بأنها تجري من أجل الأمم والشعوب والطبقات الكادحة المظلومة!
وكم في مثل الحركات الدينية وغير الدينية من شارك صامتاً في مثل هذا التاريخ الذي جرى قبله أو في أيامه لكنه لم يستنكف هذه الجرائم ولم يَعُد لها ناقداً، بل يفخر بمن قام بها!
وكثيرون كذلك من الحركات التقدمية والإنسانية من رفض العنف وقتل الآخرين والأبرياء، أي ألا يقوم بهذا حتى في حركة عنف موجهة ضد غزاة محتلين فيعتدي على أناس لا علاقة لهم بالغزو. اضطرتهم ظروف الغزو للقيام بثورة أو بعنف وجه لعسكريين مماثلين لهم، وكان هذا يعني عملاً مماثلاً لرجال الدين والحركات الدينية التي كانت تأبى الدخول في التصفيات الجسدية للمدنيين ولمن ليس لهم علاقة في مسائل الغزو، وتشترط في مسائل القتل والعقاب شروطاً كبيرة جعلت الإسلام من الأديان الدقيقة في هذه المسألة الكبرى، وكان الأئمة يقارعون الملحدين مقارعة فكرية صارمة لكن بلا اعتداء وبلا عنف.
هناك اتفاق أخلاقي بين الدينيين واللادينيين الإنسانيين في رفض العنف المجرد، والاعتداء على البشر، وفي حين أن الأولين يؤمنون بثواب وعقاب، والآخرين لا يؤمنون، ولكن هي مسائل القيم الأخلاقية العظيمة التي جمعت بين هؤلاء.
السياسيون والدينيون المعارضون والحكوميون من غير ذوي الضمائر، والنفعيون، والعدميون في الأخلاق، هم كذلك يتفقون للحصول على مكاسب فوق جثث البشر وآلامهم، لا تحرك دواخهلم أشياء من قبيل الضمير، ويوم الحساب، بل هم يتساءلون ماذا سوف تفيدني هذه الأعمال؟ هل ستبقي سلطتي؟ هل سوف تزيد ثروتي؟
مثل هؤلاء ستجده في وقت الضعف حمامة، وفي وقت القوة أداة تعذيب وقنبلة موجهة للمساكين.
ولهذا فحين تتفوق أساليبهم وتصعدهم وتصلهم إلى ما ابتغوه من مجد ومال سوف يتظاهرون بحب السلام، ورفض التعذيب، ورفض الجور والظلم، فقد مكنتهم أساليبهم من الارتفاع وصاروا جزءًا من طبقة السوط والخزائن المليئة! فلا ضمير يتحرك لكشف ما ارتكبوه من جرم، ولا ضوء يشع في عقولهم من أجل نقد الماضي والحاضر الجائرين!
يظل استخدام الدين والمبادئ الحديثة رهناً بالتطبيق الإنساني، ولن نفرق في هذا بين هتلر وستالين وأمثالهما من النسخ الدموية، فمن آمن بهما كسف الله به، وكسفت به مبادئ الإنسانية!
ليست لغة الثواب والعقاب هي لغة مجردة واستعراضية ولكنها لغة البشرية لقرون طويلة وجدت في المسآلة الأخلاقية وفي خلق الضمير والمسئولية الشخصية أدوات كبيرة لتربية الإنسان، وقد دخلت هذه في ضمائر من لم يؤمن بها بشكلها التجسيدي المباشر وفهم معناها الرمزي الكبير وتغلغلت في وجدانه وشخصيته.
ولكن هناك من يقرأها صباحَ مساء ولكنها لم تدخل قلبه، هم مسلمون ولكن هل آمنوا؟!

صحيفة اخبار الخليج
11 نوفمبر 2008