المنشور

وطن خلف زجاج



في سوق هذا الأسبوع نستضيف الدكتور حسن مدن الأمين العام للمنبر الديمقراطي التقدمي، وهو يروي حركة تشكله رجلا ومعرفةً ووعياً وخبرةً، بعيداَ عن بحر وطنه، حاملا ذكرى أستاذه المسيحي الذي أشار له يوماً، وهو ينظر بعيداً من شرفة مدرسة النعيم: إن شبكة العين ترتاح حين تُحدق بعيداً، فكلما اتسع مدار النظر كانت العين أكثر ارتياحاً. لم يتمكن حسن أن يحدّق في بحر وطنه، فقد ذهب بعيداً، البحر وهو.


حـــدّق بعيــداً


درستُ المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدرسة الخميس، وتوزعت المرحلة الثانوية على مدرستين: النعيم والحورة الثانوية.
في الأولى أنهيتُ الصف الأول ثانوي فقط، وكانت مدرسة النعيم مدرسة نموذجية جديدة، وتقع فصولنا على البحر مباشرةً، ومن وراء النوافذ الزجاجية نُبصر هذا البحرَ الذي لا يفصلنا عنه سوى ممر صغير ثم سور من الأسلاك. أذكر أن مُدرساً فلسطينياً مسيحياً اسمه إيميل كان يُدرسنا مادة الفيزياء، وفي حصته عن البصريات ذكر أن شبكة العين ترتاح حين تُحدق بعيداً، فكلما اتسع مدار النظر كانت العين أكثر ارتياحاً.
تَشّكل لدي شعور بأنه كان يُحرضنا على التحديق في البحر الذي يمتد إلى اللامتناهي خلف شباك الفصل، وما زال هذا الشعور يحملني على التحديق في ما تبقى من امتداد البحر كلما قُيض لي ذلك. مدرسة الحورة التي فُصلت منها في منتصف الدراسة بسبب نشاطي الطلابي، تقع هي الأخرى على البحر بمحاذاة امتداد جسر المحرق الوحيد يوم ذاك الذي كان يبلغ منطقة رأس رمان، وحين عدتُ للبحرين بحثتُ عن المدرستين فوجدتهما قد توارتا خلف المباني المتراصة، أما البحر الذي كنا نسمع هدير أمواجه فقد أصبح بعيداً جداً، وهو ما انفك يبعدُ عن مركز المدينة، أمام زحف رمال الردم وأبراج الكونكريت والزجاج.


بــرلمـــــــان73

كنت، في نحو السابعة عشرة من عمري، نحيف البنية، ضئيل الجسم. حين دخلتُ مكتب الأستاذ علي سيار أحد رواد الصحافة والعمل الوطني في البحرين في الخمسينات، في مكاتب مجلة ‘صدى الأسبوع’ بشارع أبي العلاء الحضرمي المتفرع عن شارع باب البحرين بالمنامة. بادرني بالقول: حين قرأت مقالاتك ظننتك أكبر عُمراً وأضخم جسماً، ثم عبر عن ترحيبه بانضمامي لصدى الأسبوع، قال: ليس مطلوبا منك في البدء سوى أن تقرأ وتتابع آلية العمل وسنُكلفك تباعاً ببعض المهام، وهكذا وجدت نفسي بعد حين لم يطل منخرطاً في مهنة الصحافة.
كُلفت ببعض التغطيات الصحافية وتدربتُ على إعداد وكتابة التحقيق الصحافي، إضافة إلى أني أشرفتُ على الصفحة الثقافية في المجلة لعدة سنوات. كانت البلاد يوم ذاك تضج بالأحداث السياسية، فقد خَرجتْ للتو من التحرك العمالي الواسع الذي طالب بالحريات النقابية وتحسين مستوى معيشة الشغيلة، وكانت البلاد تتهيأ لانتخابات المجلس التأسيسي الذي وضعَ أول دستور في تاريخ البحرين، وتلاها انتخابات المجلس الوطني، وكنت من موقعي في المجلة أتابعُ كل تلك الأنشطة والفعاليات، إضافة إلى صلتي المباشرة بالحركة الأدبية والثقافية عبر أنشطة أسرة الأدباء والكتاب التي أصبحت عضواً فيها.
ومن أكثر ما أعتز به تغطيتي لجلسات المجلس الوطني في دور الانعقاد الأول. كانت تلك تجربةً ثريةً لأنها جعلتني على صلة مباشرة بالحراك السياسي والبرلماني في البلد.


تنــــور الكتابــة


لتجربة كتابة العمود اليومي أكثر من وجه. وقد حاولت أن أعبر عن هذه الفكرة في مقدمة كتابي ‘ تـنـُّور الكتابة’ الذي جمعت بين دفتيه نماذج من المقالات التي تطرقتُ فيها لوجوهٍ أدبية وفكرية مختلفة، حين وجدت أن فكرة ‘التـّنـوُرْ’ في الكتابة اليومية فكرة مزدوجة، فأنت من جهة متورط في صميم الحياة، من حيث هي بؤرة الأحداث والوقائع والتحولات، مما يجعل هذه الكتابة مليئة بالحرقة تجاه الفقدانات العربية الكثيرة، لكنك من جهة أخرى تضطر أحياناً لإخراج خبز الكتابة من هذا التنور قبل أن يستوي تماماً.


الخطيئــة الجميلــــة



بالنسبة للكثيرين من أبناء جيلنا فإن السبعينات تمثل مرحلة مُزهرة، فهي الفترة التي بدأتْ فيها أذهاننا تتفتح على الحياة وأسئلتها، ولكن السبعينات هي نفسها كانت بداية العد العكسي للنهوض الوطني والقومي، وكان توقيع اتفاقيات ‘كامب ديفيد’ أحد عناوين هذا التراجع، وبهذا المعنى كان الجيل الفتي في السبعينات، جيلنا نحن، يعيشُ ما يشبه صحوة الموت دون أن يدري، كان يُوهم نفسه إن الهزيمة التي حدثت في 1967 مؤقتة، وإنها قد تشكل قاعدة أو منطلقاً لإعادة الثقة بالنفس وإحراز النصر.
هذه الفكرة كانت محط تأملي، إلى أن قرأتُ كتاب الكاتبة المصرية أروى صالح التي انشغل الوسط الثقافي والفكري في مصر وفي خارجها بحادثة انتحارها منذ عدة سنوات، عنوان الكتاب هو: ‘المبتسرون – دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية’، وأروى صالح كما هو واضح من عنوان الكتاب، شابةٌ تنتسب إلى هذا الجيل الذي عاش كل تلك التمزقات والمخاضات، أما الكتاب فهو شهادة مصاغة بلغة عذبة وأسلوب سلس وعبارة شفافة رشيقة لامرأة حالمة، فجاء جامعاً بين عذوبة المرأة وجمال الحلم، ليقدم شهادة بشر كانوا صادقين في البحث عن قيم العدالة والحرية هم الذين يعتبرون أنفسهم نتاج العهد الناصري الذي أمن لهم التعليم المجاني في المدارس والجامعات.
أروى صالح، هذه المرأة الشابة الرقيقة، الشفافة الحالمة لم تتحمل مسعى التدجين ومصادرة الحلم، فاختارت أقصر الطرق حتى لا تقع ضحية التناقض بين الروح وبين الحاجة، ولم يكن هذا الطريق سوى الانتحار، ولكن انتحارها ليس دلالة خيبة جيل، وإنما تعبير عن طموح هذا الجيل الذي مسه سحر الحلم، وستلاحقه دوماً ‘ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفةٌ لا تكاد تحتمل لفرطِ جمالها، تبقى مؤرقةً كالضمير’، كما عبرت في كتابها.


عــــــــــــنـب


في منتصف المسافة بين ‘سوق الغرب’ و ‘عاليه’ – المصيف اللبناني الجبلي الشهير الذي يقصدهُ أهل الخليج، تقع مجموعة من البيوت الحجرية المغطاة أسقفها بالقرميد الأحمر، والمحاطة بغابات الأشجار الداكنة الخضرة. أحد هذه البيوت، وهو عبارة عن طابق أول في دارة أنيقة مكونة من طابقين، تؤدي إليها درجات سلم حجري، كان مستأجراً من عبد الهادي خلف.
وما أكثر ما دعانا لقضاء نهاية الأسبوع في هذا البيت، فترة منفانا البيروتي، كان للدارة شرفة تطلُ على منحدرٍ متدرج من أشجار الصنوبر والزيتون التي تغطي قرى صغيرة جميلة، ومن خلفها تتراءى بيروت بكل سحرها. في الأمسيات كان النظر من الشرفةِ إلى أضواء المدينة وهي تتلألأ متعةً حقيقيةً، أشبه بالنظر من نافذة طائرةٍ مُحلقةٍ على علوٍ منخفض لمدينة حديثة. ورغم أننا لم نكن نخلد إلى النوم مبكرين، فإن المناخ الندي الجميل والنسمات العليلة التي تتسلل في الصباح تُوقظنا باكراً بشعورٍ من النشاط والحيوية.
وأمام البيت مباشرة ساحة صغيرة أنيقة، حيث كَرمةٌ تبسط أذرعها على سقفٍ يُظلل المدخل، وتتدلى منها العناقيد وافرةً، جنية، حملى بالعنب الأحمر الشهي. وكانت سعادةً كبيرةً قطف ذلك العنب الطازج الناضج. وكلما رأيتُ الكرمةَ خطرت على بالي القصيدة الشهيرة لجبران خليل جبران التي تغنيها فيروز التي يقول مطلعها: ‘أعطني الناي وغني’، والتي يُشبه فيها عناقيد العنب بثريات الذهب، وكنت أقول أنه لم يكن بإمكان جبران إلا أن يكون لبنانياً كي يكتب هذه القصيدة، وأن أمام الدارة التي سكنها في بلدته ‘بشري’ توجد بالتأكيد كرمةٌ عنب تدلت منها عناقيد كتلك التي كانت تتدلى من الكرمة في هذه الدارة.
مشهد عناقيد العنب ظل عالقاً في الذاكرة، حتى جاء صيف   1982 ، واندفعت دبابات شارون إلى النبطية وصور فبيروت، وألقت الطائرات حمم الموت والجحيم على الأبرياء والأطفال والناس العزل انتقاما من المدينة – الرمز ومن أهلها.
بالنسبة لإنسان جاهل بشؤون العسكرة وأنواع الطائرات والدبابات والقنابل مثلي، كان أمراً مُحيراً أن بعض القنابل التي مزقت جثث النساء والأطفال والأبرياء إرباً اسمها القنابل العنقودية. وهذه القنابل كما كُتب في الصحف حينها عبارة عن مجموعةٍ كبيرة من القنابل الصغيرة داخل قنبلة كبيرة وأنها تنفجر تباعاً، بالتوالي، وليس مرةً واحدةً، لذا تأتي الخسائر التي تُوقعها أكثر، بما في ذلك في صفوف المُنقذين من رجال الإسعاف وسواهم الذين يهبون لنجدةِ وإخلاء الجرحى وجثث الشهداء، فيفاجئون بانفجارات أخرى. انزاحت صورة عناقيد العنب في الدارة وفي قصيدة جبران خليل جبران، لتحل محلها صورة هذا النوعِ المُرعب من القنابل الذي تباهى رونالد ريجان حينها بفعاليته بعد أن جُرب لأول مرةٍ في اللحم اللبناني والفلسطيني..!


وطن خلف زجاج


حين عدتُ إلى البحرين في السابع والعشرين من فبراير 2001 ، كان عمري قد بلغ خمسة وأربعين عاماً. كنت قد غادرت الوطن آخر مرة، وأنا لم أكملُ العشرين بعد. كُنت خُلواً من التجربة الكافية، وكان عليَّ أن أتشكل، رجلا ومعرفةً ووعياً وخبرةً، بعيداَ عن وطني على مدار سنوات طوال توزعت على عدة ديار ومدن وأماكن.
ليست هذه المرة الأولى التي تطير بي الطائرة إلى مطار البحرين الدولي. لقد تكرر ذلك في السنوات العشر السابقة لذلك مرتين أو ثلاث. المرة الأولى كانت في ديسمبر من العام 1992 حيث خلفت ورائي صقيع موسكو وثلجها. كان ذلك بالضبط في السابع عشر من ديسمبر، وكانت موسكو السابحة في بياض الثلج تستعد لاستقبال أعياد الميلاد ورأس السنة، وكانت أشجار العيد تزين المحلات والشوارع والبيوت.
قبل أن تحط الطائرة في مطار البحرين في تلك الليلة، رحت أحدق من نافذة الطائرة في أضواء الجزيرة التي اسمها البحرين، والتي هي وطني، البلد الذي ولدت فيه وأحمل جنسيته. 


ورشة الرافـد


الإمارات بالنسبة لي كانت ورشة عمل ذهنية وإبداعية. لقد مكنتني من أن أخلو إلى نفسي، وأن أتفرغ للعمل الثقافي الذي وجدت فيه حقل اهتمامي الحقيقي، وبسرعة اندمجتُ في النسيج الثقافي والأدبي في البلد، لأكون على تماسٍ مباشر مع مفردات الاهتمامات والانشغالات الثقافية للمبدعين الإماراتيين وشريحة المثقفين والمبدعين من أفراد الجاليات العربية المنوعة هناك.
كانت ‘الرافد’ إحدى النوافذ الرئيسية لهذا الاهتمام.
منحتني ‘الرافـــد’ فرصــــةً كنت أتوقُ إليها في أن أزج بنفسي في أتـــون تجربـــةٍ ثقافية غنية تكون على تماس مع روافد الثقافة والإبداع في العالم العـــربي برمته، وعلى تخوم الأجناس الأدبية والفنون المختلفة: النقد الأدبي والفني، المسرح، التشكيل، السينما، فضلا عن إمكانية التعرف على التجــــارب الإبداعية الجديـــدة في الأقطــار العربية المختلفــة.

 


الوطن من السماءّ
!




أن ترى الوطن من فوق، من علوٍ. أضواء تتلألأ في خطوط دائرية وأخرى عمودية، ومن تلك الأضواء تستطيع أن تحدد الفاصل بين البحر واليابسة. يبدأ البحر حيث تبدأ العتمة، أما اليابسة فإنها تسبح في الأضواء، تشع بالنور. قبل عشر سنـــوات استغرقني التفكير ذاته عما خلفته في وطني: صباي وغرفتي المتواضعة في بيتنا القديم، وبعض كتب وصور ورسـائل حـبٍ أولْ لم يكتمل. لم أر الوطن يوم ذاك. اكتفيت بالذكرى التي رسخت في الذهن. ليلة مبيت واحدة على كرسي في قاعة ترانزيت المطار، في اليوم التالي أُعد لي على عجل جواز سفر صالح لمدة سنة واحدة، وعلى إحدى رحلات شركة طيران الخليــج المتجهـة إلى دبي، طُرت إلى الإمارات.
بعد سنوات أخرى، كنت عائداً من عمّان عاصمة الأردن في طريقي إلى دبي. كانت الرحلة عبر البحرين، كان لا بد من وقفة أخرى في مطار الوطن. الوقت كان نهاراً، وكان الفصل صيفاً والشمس ساطعة. ولأن فترة التوقف تستغرق ساعات، فقد رحت أتجول في أرجاء المطار. من خلف الزجاج بدت أشجار النخيل الباسقة في محيطه، على بعد مرمى النظر. أحسست في تلك النخيل بشيء من طفولتي، من صباي، لأنها ذكرتني بواحة النخيل التي كانت تجاور البيت الذي وعيت فيه على الدنيا وقضيت سنوات الطفولة والصبا.


الوطن من وراء الزجاج

!




أن ترى تراب الوطن ونخيله وبيوته وبعض شوارعه ولكن من خلف الزجاج. لا تطأ قدمك ترابه، ولكن عينيك تراه، ليستثار في نفسك ولع وغصة.
اليوم السابع والعشرون من فبراير 2001 لم أكتفِ برؤية الوطن من السماء، من علوٍ، ولا من وراء زجاج المطار.خطوتُ برجليَّ إلى ما هو أبعد من ردهة المطار، فتجاوزت بوابته الرئيسية، وخرجت إلى الشارع لأشم هواء الوطن.


 
الوقت 
علي الديري
سوق الجنة
8 نزفمبر 2008