المنشور

تكميم الأفـواه من جـديـد


لم أجد تشبيهاً أقرب إلى تصريح وزير الداخلية الأخير والذي شابه تهديد ووعيد لكل من تُسوِّل له نفسه من المواطنين أو النواب أو ممثلين لجمعيات سياسية بالمشاركة بحضور اجتماعات أو مؤتمرات أو ندوات في الخارج أو الالتقاء بممثلي دول أجنبية أو منظمات أو هيئات أجنبية بغرض بحث الأوضاع والشئون الداخلية لمملكة البحرين إذ عدّها مخالفة للقانون سوى أن «حليمة عادت لعادتها القديمة».

تصريحات وزير الداخلية تعيد البلد من جديد إلى ما قبل العام 2000 وإلى الحقبة السوداء وقانون أمن الدولة وسياسة ملاحقة النشطاء السياسيين والاجتماعيين الذي يتواصلون مع المنظمات العالمية فيما يتعلق بمختلف الأنشطة والفعاليات سواء كانت حقوقية أو تنموية أو سياسية أو اقتصادية.

تصريحات وزير الداخلية تصطدم مع مشروع عاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة الإصلاحي الذي أخرج البلد من ظلمات الاستعباد وتكميم الأفواه والقمع، وفتح الباب أمام الجميع للحديث بصراحة في مختلف القضايا العالقة مع مختلف الجهات سواء كانت داخلية أو خارجية، وأطلقت العنان لممارسة مؤسسات المجتمع المدني دورهم الحقيقي في الحياة العامة بما لا يمس بسيادة البلد وأمنه، وبما يضمن وجود فعاليات شعبية فاعلة ونشطة.

لقد فقدت الحكومة صوابها بصدق عندما وجدت نفسها عاجزة عن كبح جماح مؤسسات المجتمع المدني التي تحركت وفق الأطر السلمية وبعيداً عن العنف في تحقيق مطالب شعبية عادلة بعدما عجزت عن تحريكها على المستوى الداخلي لتضييق الخناق عليها، فلجأت إلى الخارج ضمن سياسة عالمية تؤمن بأن العالم بأجمعه أصبح قرية صغيرة لا يمكن تجزئتها.

وبالتالي أصبح واجباً على وزارة الداخلية محاسبة كل مؤسسات المجتمع المدني والوفود الأهلية التي تشارك في الفعاليات الدولية، وقد نجد أن حملة الاعتقالات قد تطول تلك الوفود المخالفة للقانون والتي عمدت للمساس بهيبة البلد ووضعها المالي وعلاقاتها الخارجية، وجملة من الإغلاقات للجمعيات النشطة على الصعيد الدولي ومن أبرزها الجمعيات الحقوقية والنسائية.

من المؤكد أن الأضرار التي تكبدتها البحرين جراء الأزمة المالية العالمية الحالية، لم يكن سببها سوى ما قامت به بعض الجمعيات وأعضاء المجلس النيابي من عرض حقائق واقعية عن أوضاع بحرينية لا يمكن لأي شخص أن ينفي وجودها، وبالتالي كان من الأحرى أن يتحرك وزير الداخلية للحفاظ على الوضع المالي للبلد وهيبتها ومكانتها وعلاقاتها الدولية، وخصوصاً أن المادة (134 مكرر) من قانون العقوبات تنص على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبالغرامة التي لا تقل عن مئة دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل مواطن، أياً كانت صفته، حضر بغير ترخيص من الحكومة أيَّ مؤتمر أو اجتماع عام أو ندوة عامة عقدت في الخارج أو شارك بأية صورة في أعمالها بغرض بحث الأوضاع السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية في البحرين أو في غيرها من الدول وكان من شأن ذلك إضعاف الثقة المالية بدولة البحرين أو النيل من هيبتها أو اعتبارها أو الإساءة إلى العلاقات السياسية بينها وبين تلك الدول”.

إنها الشراكة الحقيقية بين المجتمع المدني والدولة والتي رفضها وزير الداخلية، فإما أن تكون الشراكة وفق ما ترتضيه الدول وبإذنها وتصريح وإلا فلا شراكة ولا مؤسسات مجتمع مدني ولا تنمية وتطوير، بل حبس وغرامات وضرب بيد من حديد لكل من يتحرك من أجل المطالبة بالحقوق والإنصاف والعدالة.

لقد ذهب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ومقولته الشهيرة ” أنت لست معي… إذاً أنت ضدّي ” ، ولكن أعاد وزير الداخلية البحريني هذه المقولة من جديد ليشد الحزام على كل من يعارض الحكومة ويتحدث عن مساوئها وأفعالها، فإما أن تكون الجمعيات والنواب وأي مواطن «ملمعين» للحكومة في الخارج، وإلا فإن الحبس والغرامة مصيره ولا مشاركات خارجية إلا بإذنه وعلمه، وقد نعود من جديد إلى زمن الوفود المفبركة للمزيد من التلميع الخارجي والاضطهاد الداخلي.
 
الوسط 8 نوفمبر 2008