المنشور

تجاهل الخطأ تقوية للخطأ‮.. !‬


بين الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030 وتقرير ديوان الرقابة المالية 2007ترابط وثيق، فإذا كانت الرؤية وما أثير بشأنها من كل حدب وصوب كافٍ أولاً للحكم على الأهمية الإستراتيجية لهذا المشروع الوطني بما ينطوي عليه من مبادىء ومحاور ومنطلقات وأهداف تجعله حقاً بوابة للإصلاح الاقتصادي، وكافٍ ثانياً لإظهار أن المواطنين تائقون توقاً عميقاً إلى مناهج عمل جديدة تجعل واقعنا واقتصادنا في أوفر عافية، وأن قادم الأيام ستكون حقاً خيراً مما سلف، فإن تقرير ديوان الرقابة المالية للعام 2007 نجد في كنفه غابة من المعضلات والتجاوزات والأخطاء ومظاهر من التسيب والهدر بالتفاصيل وبالأرقام، شأنه شأن التقارير السابقة التي تكلمت عن مخالفات لا تعد ولا تحصى، وأضحت في معظمها شأناً يكاد يتكرر في كل تقرير، سنة فسنة، مما يجعل الأمور لا تسير في الاتجاه الايجابي المنشود.


 وبما أن الرؤية الاقتصادية من ضمن عناوينها اللافتة: الإصلاح، واستئصال الفساد، والتقدم على سلم الشفافية، وتوفير أجواء التنافس الحر العادل في كافة المعاملات سواء في التوظيف أم المزادات العامة أم ترسية المناقصات أم السعي إلى التطبيق العادل للقوانين، وإرساء العدالة في المجتمع، والحوكمة للشركات المملوكة للدولة لتكون نماذج مثالية، فإن ذلك يفترض أن يكون بمثابة حافز يحثنا على البدء فوراً بتغيير أسلوب التعاطي مع تقرير ديوان الرقابة المالية بكل ما في ذلك من حزم وعزم وبأس وإرادة، لأنه ليس من الحكمة أن تستمر المخالفات والتجاوزات المنافية للمصلحة العامة، ونبقى نصر على التعامل معها مخففين من وطأتها و “ملطفين” من مسماها باعتبارها مجرد ملاحظات والتي بصرف النظر عن المسمى فإنها كالعادة لا تخضع لأي تحقيق، ولا تستدعي فرض انصياع المعنيون بها أو المتورطون فيها إلى ما يدفع نحو أي معالجة ولا نقول محاسبة، وكأن هناك من يريد لهذه الأحوال أن تستمر، متسبباً عمداً أو عجزاً في حدوث مترتبات ومضاعفات لاشك أنها لو استمرت، فإنني لا أظن أن المرء يحتاج إلى خيال واسع لكي يتصور كيف سيكون مسار الأوضاع الاقتصادية والأهداف التنموية من منظور الرؤية الاقتصادية المستقبلية التي نرى في مضمونها اليوم ما يبعث على البهجة والتفاؤل، وسيكون خطأ فادحاً أن نعجز عن تهيئة الأجواء التي تمهد لتطبيق الرؤية وتشيع الأمل في النفوس وتزيل منها ما هو عالق من إحباط، لذا لا نستطيع أن نكتم غيظنا من الشعور بأن الحسم والجدية كانا ولا يزالان مهمة مستحيلة لمواجهة ما ورد في التقرير الأخير تماماً كما هو الحال مع التقارير السابقة لديوان الرقابة المالية، وذلك لاشك أنه باعث على الوجع والقلق والانزعاج والدهشة، لأنه حتماً لا يخدم أي توجه نحو المستقبل ولا مطالب المستقبل .


ما جاء في التقرير فيه الكثير من التفصيلات التي لا مجال للخوض فيها الآن، ولكنها لا تدع مجالاً للشك في ان هناك خطأ يستوجب المعالجة، وأهم متطلبات المعالجة ان نعيد النظر وبكل جدية في الفعل وفي ردة الفعل، ومن هنا نتساءل عن المطلوب، ونجيب:


المطلوب أولاً: أن نتحلى فوراً بأقصى قدر من الجدية والحسم مع كل تقرير يصدره ديوان الرقابة المالية لوقف الهدر الذي يلحق بالمال العام، وليس من الحكمة أن تتكرر المخالفات والتجاوزات في كل عام ونبقى ننظر لها ونتعامل معها على أنها مجرد ملاحظات، في مشهد يرفع من شأن قيم سلبية معينة، ويهمش أو يضعف، بل ويغيب أو يجهض من شأن قيم إيجابية من قيم العمل العام أهمها قيمة المساءلة والمحاسبة، مما لا يصّوب المعوج ولا يصحح الخطأ، ومن هنا فإنه ليس بغريب أن يكون صدى هذا التقرير والتقارير الأخرى السابقة محصوراً حتى الآن في ذلك المشهد المتمثل في تسابق الوزارات والأجهزة الرسمية المعنية إلى نشر تصريحات وبيانات مسهبة تفند وتدحض ما ورد بشأنها من مخالفات المذهل أن كثير منها يكاد يتكرر في كل تقرير، وتتكرر معها التبريرات التي لا معنى ولا قيمة لها في غالب الأحيان، والتي منها ما يكفي في ابسط الأحوال أن يقدم من يتحمل المسؤولية عنها استقالته، إلا أننا على ما يبدو أمام نمط أو نماذج فذة من مسؤولين كثر لا يعرفون من ثقافة الاستقالة شيئاً، نماذج ترى أنها محصنة من الاستقالة أو الإقالة ولا ترى أن عمرها الافتراضي في موقع المسؤولية هنا أو هناك ينتهي اليوم أو غداً. وذلك في حد ذاته وجه آخر لمشكلة جديرة بالتأمل والتقصي والدراسة.
المطلوب ثانياً، الاقتناع بأن بلوغ أهداف الرؤية الاقتصادية والتنموية لا بد أن يقترن مع إصلاح حال الإدارة العامة وتنزيهها من ادران عديمي الكفاءة، والتسيب والفساد، بل لا بد أن يشكل هذا المطلب البعد الأعمق في أي رؤية، وفي قمة أولويات أي إستراتيجية عمل تنبثق عنها، أننا نحتاج اليوم قبل الغد إلى إصلاح إداري يجب أن يطال الجهاز الرسمي في بناه وأنظمته وأساليب عمله وتأهيله وفق أحدث الأساليب، مع اعتماد معايير الكفاءة ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ذلك كله من شأنه أن يدفع بالأمور في الاتجاه السليم. والمطلوب أخيراً وليس آخراً من النواب أن يتعاملوا مع كل تقرير من تقارير ديوان الرقابة المالية بمهنية عالية من دون ادعاءات مزعومة، ومدافع إعلامية بات يجيدها البعض من النواب الذين دأبوا على توجيه أسئلة نيابية متكررة ورتيبة، فيما دأب البعض الآخر على إلهاء الرأي العام بمعارك مفتعلة في سبيل بطولات وهمية حول هذا الرقم أو ذاك، ومحتواه ومدلوله، فيما دأب آخرون على تسييس التعاطي مع الكثير من محتويات هذا التقرير.


إن ديوان الرقابة المالية رسالته التحقق من سلامة ومشروعية استخدام الأموال العامة وحسن إدارتها، وإحكام الرقابة عليها، ومن المصلحة أن تكون تقارير هذا الديوان دافعاً للعمل والإصلاح وسد الثغرات التي تستغل في ارتكاب المخالفات والتلاعب بالأموال العامة وليس لخيبة الأمل وتكريس واقع محبط، وفي النهاية ليس أمامنا إلا القول: أن تجاهل الخطأ تقوية للخطأ، وأنه ليس من المنطق في شيء في أحسن الأحوال أن يعهد الى نفس الأشخاص الذين تجاوزوا وتخطوا الإشارات الحمراء في ارتكاب الأخطاء والانحرافات بمهمة الحساب والمساءلة ومعالجة ما ارتكبوه من أخطاء، لا ينبغي أن يكون ذلك حتى في حالة الإصرار على التعامل مع هذه الأخطاء والتجاوزات بأنها مجرد ملاحظات لا تستدعي أكثر من الرد والتوضيح.
من المؤكد أن ذلك يعيد إنتاج الأوضاع التي نشكو منها، ومن هذه الزاوية بات الإصلاح الإداري أمراً يفرض نفسه بقوة أكثر من أي وقت مضى لأسباب اعتقد أنها معلومة للكافة، وأتمنى أن تكون الرسالة واضحة والتنبيه أوضح ما يكون.
 
الأيام 7 نوفمبر 2008