المنشور

اللون ليس هو المنتصر في انتخابات أمريكا


ليست المعركة السياسية في أمريكا هي معركة لونية، بل هي صراعات اجتماعية كبيرة متداخلة مع النضال ضد العنصرية.
الذين يحولونها إلى صراع بين لوني الأسود والأبيض، لهم بعض الحق، فثمة حقائق كبيرة وكثيرة على اضطهاد السود من قبل البيض، وثمة عنصرية ومنظمات إرهابية توجه كراهيتها للعرق الأسود، ولكن كل ذلك يجري لإخفاء معركة اجتماعية كبيرة بين أغلبية العاملين والفئات الوسطى وبين قمة البيض المهيمنة على الشركات الكبرى وشركات السلاح والنفط والبنوك والصحافة والاتصالات.


لقد عبرت أمريكا الشمالية والجنوبية عن زمن جديد للبشرية هو عصر الثورة الصناعية، تدفقت فيه قوى السكان من أوروبا وافريقيا بأشكال مختلفة، ففي حين جاء المستوطنون من أوروبا الغربية خاصة وهم عمال أو تجار أو سجناء مجرمون يقضون عقوبتهم فيها، جاءَ السودُ من افريقيا وهم مقيدون في أعماق السفن ومصفدون ومنتزعون من أراضيهم ومزارعهم وقراهم.
فرقٌ كبيرٌ بين من جاء غازياً مستعمراً، وفيه روح العدوان والاستغلال والعمل والتضحية والثقافة كذلك، ومن جاء عبداً، ثم كـُرس في مزارع العبودية ومعامل الأجرة المتدنية، وتوضع عليه أغلال الفقر والجوع والأمية والخرافة.


ليست الفروق بسيطة وليس نمو البيض كنمو السود، لقد توحد بعض البيض مع أحدث أسلوب إنتاج، وكان يقوم بثورات علمية هائلة، وانتشرت علاقات ديمقراطية في الأسرة وتطورت الثقافة وتعملق المسرح والسينما بشكل عالمي، بينما خضع السود للأحياء الفقيرة يتوالدون فيها بشكل كثيف، كأنهم يحافظون على نسلهم من الاندثار. لكنهم في هذه الأحياء المليئة بالإجرام والتخلف صارعوا ظروفهم، وتعلموا التجارة واشتركوا في النقابات والأحزاب، وابتكروا ثقافتهم الأفريقية – الأمريكية، لكن تيارات التعصب كالفهود السود والزنوجة لم تنتصر، لأن بعضهم حين رجع إلى افريقيا اكتشف الفروق الكبيرة التي تبعده عنها، فقد صار أمريكيا من أصل افريقي، ولم تعد افريقيا بمناسبة له.


لكن أمريكا كذلك تحتاج إلى تغيير، وبين الحصول على حق التصويت وحق الأكل في المطاعم العامة وحق ركوب المواصلات جنباً إلى جنب مع البيض، وبين الدخول في الأحزاب والنقابات والترشح إلى المجالس الوطنية، ثمة مسافة كبيرة قطعت عبر عشرات السنين بكفاح مرير ومعارك ودماء.


الأمريكيون من أصل افريقي بلغوا عشرات الملايين وغدوا رقما مهما لليسار وفي الانتخابات، وكأي أقلية تـُضطهد فانها تطلقُ كلَ طاقاتها وإذا كان الحقد قد فشل في تجاوز الخنادق العنصرية، فإن الرياضة والفنون والسياسة والاقتصاد والانتخابات لعبت أدوارها الحضارية، وصعّدت هذه الأقلية، لتغدو هي البارزة في شتى نواحي الحياة رغم كونها أقلية.
منذ سنوات طويلة ركز اليسارُ الأمريكي في اختراق هذه الأقلية باعتبارها قلب الحيوية الاجتماعية في مواجهة طغيان وعنصرية البيض ولكون أغلبيتها الكاسحة عمالا، وكان التأثير فيها سهلا نسبيا، فانتقلت من الزنوجة وعبادة الأرواح إلى القوة السوداء والماركسية وحرب العصابات حتى استقرت عند المسيحية بمذاهبها المعارضة.


في تاريخ باراك أوباما نجد هذا الانتقال من الإلحاد والإسلام إلى اعتناق المسيحية، وهذا الاعتناق يمثل العقلانية السياسية لرجل يريد أن يعبر عن بلده وشعبه، فالمسيحية تمثل الأغلبية الكاسحة، ومن المستحيل لرجل يطمح إلى الوصول إلى منصب رئيس أمريكا أن يكون غير مسيحي.
فالعلمانية لا تعني العدمية الدينية كما يتصور البعض، لكن في مقابل عنصرية البيض وديانتهم الارستقراطية تتوجه ديانة السود المسيحيين للبساطة وللديمقراطية الشعبية ولتوحيد المسيحيين البيض والسود في نضال مشترك.
وهو صراع مصالح بين أغلبية شعبية عاملة ومالكة وبين قوى الشركات الكبرى مالكة السلاح والنفط والمال والدعاية، وهي القوى التي يصعب اختراقها وستظل حاكمة إلى أن يتبدل نمط الإنتاج.
ولهذا فإن التبدلات ستكون جزئية في السنوات القادمة لحكم أوباما متجهة إلى وضع مصالح هذه الطبقات في الاعتبار، والتخفيف من معاناتها، والتخفيف من الحروب وضرائبها الفادحة، والتوجه إلى السلام والمفاوضات والحوار مع الدول الأخرى، وهذا يعني تراجع دور أمريكا كشرطي عالمي، ولكن لن يعني توقف نموها الاقتصادي وتوجهها إلى غزو الأسواق ومنافسة الرأسماليات الكبرى العملاقة التي أزاحتها.
هذا يعني التخفيف من الضرائب على الشعب والعاملين مما يؤدي إلى انعاش الأسواق، وتوجيه المداخيل للسلام والسوق الأمريكية.
وهو برنامج معتدل ليس فيه تأميم أو ضربات اقتصادية للبنوك والشركات، فباراك يمثل نسخة رأسمالية معتدلة، وحلا وسطا بعد تطرف، لكن ذلك يمثل مصالحة ومقاربة بين قوى متصارعة كبيرة ستتجابه مرة أخرى في سنوات مقبلة بشكل أكثر جذرية.
وهو نسخة أخرى من حكم كلينتون ولكن بشكل أكثر قوة، ولن تتغير العلاقات الدولية بشكل جوهري، أو يحدث فيها انقلاب دراماتيكي، بل ستحدث تغيرات سلمية أكبر وتخفيف من الصدامات.



أخبار الخليج 7 نوفمبر 2008