المنشور

الخليجيون ليسوا مغفلين


كل من جاء إليهم ادعى أنه فلتة زمانه، المهرجون وباعة البضائع الفاسدة والمستعمرون وقادة البوارج الحربية وأهل الطرب والفرفشة وخدم المنازل والمقاولون الفاشلون والدجالون الذين نفقت أسواقهم في بلدانهم، والسحرة الذين أحيلوا للمعاش، والطائرات التي لم تعد صالحة للاستعمال، والعملات المتآكلة في الأسواق العالمية، والمأكولات الكاسدة في قارات الدنيا.
كل من جاء إليهم يدعي انه الخبير المتخصص الذي لم يجُد الزمانُ بمثله، وكل حرفي محدود في بلده زعم انه مهندس خبير، وكل من خط حرفاً قال وادعى من دون إثبات مقنع انه الكاتب التحرير الفذ في الجريدة الأولى في بلده،
 

وكل أستاذ نفقت دروسه وهرب منه تلاميذه يحضر إليهم كأنه أرسطو زمانه وفولتير عصره، وهذا الصحفي يقول إنه سيكتب استطلاعاً عن هذه المنطقة المهمة من العالم، فأخذ الهدايا من العقود والساعات والدولارات حتى إذا رجع إلى بلده ذم المنطقة وأهلها المتخلفين، كلٌ منهم يقول هذه منطقة المغفلين فلنملأ جيوبنا من نفطها الزائل، حتى إذا رجع إلى بلده ذمها.
ألم يكن سكان الجزيرة العربية هم رواد النهضة؟ ألم يعش آباؤهم على تمر قليل وحليب نوق هزيلة وخيام قماشها ممزق، وتفجرت أشعارهم وتجد الأبطال الذين جيشوا الجيوش وقاتلوا حتى وصلوا إلى الصين؟
اقرأ شيئاً من الطبري وطالع أين وصل هؤلاء البدو البسطاء وكيف تدفقت الأشعار من أفواههم، وكيف ثاروا وانتجوا وقلبوا الدنيا رأساً على عقب.
فما بال أحفادهم خائرون، متخثرون، يحتاج الواحد منهم إلى عدة عمال كي ينظفوا بيته، وسيارته، وملابسه، وأبناءه، وأحذيته، وجواربه، وينظفوا ناديه، ويراكموا الصدأ على عقله الذي كان لا يزال على الصفر؟
يهاتف رئيس الشركة الأوروبية موظفيه: ارسلوا كل البضائع المنتهية الصلاحية إلى الخليج مزبلة الدنيا.


نعم هناك من يستقبل ويستفيد ويروج للبضائع الكاسدة ويوزعها في الأسواق، ولعله من أحفاد أولئك الثائرين والجبابرة الذين دوخوا العالم وهم على إبلهم يقاتلون ويملئون الدنيا شعراً ونثراً ويخصفون نعالهم ويجعلونها وسائد تحت رؤوسهم وهم في براري تركستان ويموتون من أجل كلمة.
ما بال أحفادهم خائرون متخثرون كأنهم لم يروا نعمة ولا أبصروا نقوداً، فتهالكوا على الدنيا كذباب متساقط على عسل مغشوش؟
أين ولت أرواحهم المندفعة إلى المعالي والسمو؟
كيف خبت أشعارهم وكانوا شعراء القارات كلها؟ فحين يقال العربي يقال الشعر والفرس والخيمة الحرة في فضاء الكون.
لماذا أصبحت نساؤهم متهالكات على الغسالات والثلاجات والخادمات والتفاهات؟
صرخات العالم تدوي:
اذهب للخليج واسرق.
اذهب للخليج وبع الفقاقيع.
ألا تشتاق في هذا الذل أن تكون صعلوكاً من صعاليك الجزيرة الأحرار الذين ملأوا الدنيا شعراً بطوليا بدلا من أن تكون عضوا قياديا في حزب نضالي فاسد وانتهازي؟ أو موظفاً مرتشياً تموت كل يوم من أجل دراهم بائرة وتجارة خاسرة؟
وأين أصحاب الكلمات الخالدات وأين المتدفقون لغة وحياة من هؤلاء المتلجلجين العاجزين عن النطق بالعربية والمتلعثمين في كل قضية؟
هل هؤلاء هم حفدة أولئك أم هم مسوخ شوههم التكالب على الفلوس؟
والأدهى من ذلك ان حراس نقود الناس هم الذين يضيعونها، فلماذا حرسوا نقودهم جيدا جدا وأهملوا أموال العامة؟
لماذا يقوون اقتصادات دول أخرى ويفشلون في تقوية الكهرباء والمياه في بلدانهم، أم يكون هذا نتيجة لذاك؟


يعرفون كيف يأكلون ويبلعون ويدخلون الأموال والعمال والشركات ولكن لا يعرفون كيف يهضمون، وكيف يخططون، ألا تجد ان الشوارع الضيقة امتلأت بعربات زائدة على الحاجة وأخذت تملأ الطرق وتعوق المرور بدلاً من أن تزيد الحركة وتوصل الناس إلى أعمالهم وبيوتهم وصارت تعرضهم في الشوارع؟
الإدارات والطواقم والوزارات تمضي في حركات عفوية مستمرة، واللصوص الذين أبعدوا يعودون بجوازات أخرى، والمعلبات المنتهية الصلاحية تملأ الأسواق، وكل شيء مستورد يُباع بقيمة أكبر من بلدان أخرى، وطبقة مستوردة تسمن على حساب عرق الملايين، وكلاء السلع، ووكلاء العمال القادمين ووكلاء الفيز الخ.
البرلمانات النادرة الأولى في المنطقة لديها جبال من القضايا والحكومات تتوهها في سراديب البيروقراطية بدلاً من أن تتعاون معها من أجل إزالة الصدأ من المواسير السياسية التي تمتلئ كل يوم بالفطريات والطفيليات.
ارتجفت العظام حين ترنحت البراميل الزيتية، وسقطت أسعارها إلى النصف، فبدأت الوجوه تتغير، وسوف تتوجه نحو العمال وأجورهم كالعادة، ونحو هياكل الإنفاق على الضروريات للمواطنين، لا أن يعيدوا قراءة مرحلة التنمية الفجة السابقة، وهذا الكرم الحاتمي للخارج.
وسوف تنزل أسعار النفط أكثر فأكثر وتكر سبحة التغيرات وتجد الأبنية الكثيرة نفسها فارغة، والعمارات تفرغ من ساكنيها، وتترنح الإيجارات فوق رؤوس المالكين.
إنه من الأفضل الآن إضافة إلى حماية البنوك الوطنية والمدخرات والاستثمارات أن يناقش المسئولون في الخليج هذه الكارثة التي حلت بالاقتصادين الغربي والعالمي وكيفية الخروج من التبعية للغرب ولعملاته، ولإستراتيجيته الاقتصادية وتكوين إستراتيجية اقتصادية خليجية متعاونة في القريب العاجل موحدة في المستقبل، تركز في الصناعات والتنمية الحقيقية لا التنمية الطابوقية والحجرية، والتهام الطبيعة الخضراء والزرقاء، بل تنمية الطبيعة الصحراوية الصفراء التي لديهم منها الكثير.


 

 
أخبار الخليج  3 نوفمبر 2008