المنشور

قراءةٌ نظريةُ للأزمةِ المالية

يسود الخوف والهلع في المراكز المالية في قلب العالم (أميركا) والمراكز في القارة العجوز إضافة إلى التخوم التابعة، إلى درجة أن الولايات المتحدة الأميركية المعروفة بالاستئثار بقوتها وعنجهيتها المعهودة قد رضخت أخيراً للاستنجاد بالآخرين الأصغر شأناً، وذلك بدعوتها لاجتماع عالمي يضم إضافة إلى الثمانِ الكبار، دستة من الدول المهمة في مجال الطاقة والمال، تتكون جميعها من عشرين دولة، للبتّ والتداول ومحاولة وضع آليات والتزامات والتفكير في تشكيل منظومة مالية عالمية جديدة لضبط العولمة المالية (غير معلنة رسميا في الوقت الحاضر)، الأمر الذي يجسّد بوضوح درجة الأزمة وتأثيرها، ليس فقط على مركز العالم المالي والاقتصادي بل على المنظومة الدولية برمتها، حيث بات ‘النظام الرأسمالي’ معرضا للسؤال والتساؤل!
بات السجال السياسي/ الفكري وحتى النظريّ سيد الموقف، وأصبحت عملية ترجمة الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية جارٍية على كل لسان، بدءً بالأخصائي وانتهاءً برجل الشارع. فالأزمة المالية الحالية ليست سحابة صيف ‘ستنقشع’ بعد أن ضُخّت سيولة خيالية وصلت إلى أكثر من ستة وربع تريليون دولار، حسب تمنيات الساسة الكبار والصغار، تعود بعدها ‘حليمة إلى عادتها القديمة’، أي المزيد من السطو على أموال المواطنين الأكثر ضعفاً.
لكن يبدو أن العالم مقبل على مرحلة جديدة من تشكيلة رأسمالية دولية ذي رؤوس عدة (تعدد الأقطاب) هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى لا يمكن حتى الحديث عن نهاية المنظومة الرأسمالية المعاصرة السائدة في عالم اليوم، كما يتمنى الرومانسيون الثوريون! فتحت تصرف الرأسمالية موارد وطاقات جبارة إضافة إلى حِيَلٍ لا أول لها ولا آخر، ولو أنها تُعبّر عن مصالح الأقلية الضئيلة في الوقت الحاضر، لكنها قد تكون مُجبرة لتوسيع قاعدة منتفعيها ضمن الصّفوة، القابعة في رأس الهرم الاجتماعي، لفترة قد تطول من عمر الرأسمالية عبر التاريخ البشري. لكن الأكيد وحسب علم التاريخ الحقيقي من أن أية منظومة اجتماعية/ اقتصادية لا تضمحل من تلقاء نفسها (موضوعيا) وستقاوم بعناد حتى تتشكل القاعدة المادية والمعنوية للمنظومة البديلة، وهي شروط غير متوافرة في الوقت الحاضر لأسباب عديدة لعل أهمها قانون التطور غير المتكافئ، الذي ترضخ تحت وطئه الدول النامية.
هذا على الصعيد الموضوعي. أما على الصعيد الذاتي فحدّث ولا حرج، لأن القوى المناط بها للتغيير والتجاوز لم تفلح بعد في تجميع طاقاتها، وهي ليست متشرذمة وتتصف بالخصومات فيما بينها فحسب، بل تعاني من وهنٍ وأمراضٍ عديدةٍ تتطلب علاجها سنين وعقودا طويلة. هذا إذا ما توافرت ظروف مواتية وعزيمة راسخة وصادقة من قِبَل ‘القادة’ المتنفذين. وكما جاء في ‘المانفيستو’ الأشهر أنه لا يكفي المعرفة التفصيلية والقدرة التحليلية التي بحوزتنا لحل أية مشكلة وتجاوز حال إلى حال بل المطلوب أيضاً وجود القوة المادية الضاربة التي بإمكانها تنفيذ تلك المهمة التاريخية المعقدة وإمكانية تجاوز منظومة سائدة والدخول في منظومة بديلة أرقى وأكثر عدلاً ، عبر مرحلة انتقالية لا أحد يعرف مداها من الآن. وأن نستعين بلغة الاقتصاد والاجتماع السياسيين، فإن مجموعة مركّبة من العوامل الموضوعية والذاتية يجب توافرها لقبر الرأسمالية كنظام شائخ مأزوم ولكنه ديناميكي، وهي عوامل لم تتوافر بعد على أجندة التاريخ البشري المعاصر!
وحيث إن الأزمة برمّتها مسألة إشكالية وعصيّة على الفهم المبسّط، لذلك لابد في تقديرنا أن نأخذ في اعتبارنا النقطتين البديهيتين التاليتين:
(1) معرفة ما يحدث أمامنا من الأزمة المالية العولمية الحالية، التي تعيد إلى الأذهان- تلقائيا- سنوات الكساد الكبير بين نهاية عشرينات وبداية ثلاثينات القرن الماضي (مع الفارق)، لا يفيد الاستناد فقط على علم الاقتصاد الرسمي البرجوازي ولغته الإحصائية والرقمية بل الأمر يتطلب قبل كل شيء الإلمام بدهاليز معرفة علم الاقتصاد السياسي بل وحتى علم الاجتماع للوقوف على العملية الاقتصادية بجناحيه، الإنتاج والتوزيع، وموضوعية الحاجة البشرية وعنصر النُّدرة وغيرهما.
(2) صيغة البحث النظري لعلاج أزمة الرأسمالية في إطار المنظومة نفسها لا تؤدي إلى حلٍ أو مخرجٍ من الأزمة المستفحلة. فالأرجوحة العلاجية – إن جاز التعبير- ما فتئت تنتقل من الرأسمالية الكلاسيكية (التنافسية الحرة) إلى رأسمالية الدولة (الكنزية).
ثم العودة إلى آلية السوق المتحررة (فريدمان). والآن محاولة العودة إلى تضبيط السوق المالي (كالموضة تأتي/ تغادر/ ترجع). . وهكذا دواليك في لعبة/دائرة شيطانية تدور حول نفسها وتعيد إنتاج فكرها وفلسفتها على الدوام، مادام أصحاب المصلحة الحقيقية لتجاوز المنظومة لا حول لهم ولا قوة في الوقت الحاضر!
والآن كلمة قصيرة عن تأثير الأزمة على الدول الخليجية. . هل صحيح أن الدول النفطية الخليجية لم تتأثر بالأزمة هذه، كما يُقال ويُنشر؟ من الممكن أن يكون التأثير الحالي ليس حاداً بسبب نمط التوفير المصرفي السائد وقلة المصارف الاستثمارية- نسبيا- ولا توجد معلومات إحصائية دقيقة ولا نمط من الشفافية نستند إليها، لتُمكّننا من تحليل الأرقام. ولا يمكن بالطبع الركون على تصريحات المسؤولين الأخصائيين الاقتصاديين، المكبّلين بقيود وظائفهم.
لكن هناك بعض من الأخصائيين الجادين والشجعان باتوا يحذرون من مغبّة خطورة الأزمة وتأثيراتها الحالية والمستقبلية على دول مجلس التعاون الخليجي، تحديداً إذا ما استمرت أسعار النفط في الهبوط الدراماتيكي أسوة بصعودها (ردة الفعل). وعسى أن لا يتجاوز الهبوط الحدود المعقولة من الأسعار 80 دولاراً، حتى تتمكن الدول الخليجية النفطية من الاستمرار في مشاريعها التنموية. لكن إذا ما هبطت الأسعار إلى 50 دولاراً فإن الأمور لا تساعد في توفير ضمان استمرارية المشاريع العملاقة، العقارية والإنتاجية بجانب المشاريع الرديفة للبُنية التحتية العمرانية إضافة إلى المشاريع الاجتماعية. أما إذا انكسر حاجز الـ 50 دولاراً، فحينئذٍ سنكون على مقربةٍ من وضع غير محمود.
بات جلياً الآن عاقبة سياسة المضاربات المنفلتة، المتعددة الوجوه، خاصة فيما يتعلق بالعقود الآجلة في مجاليّ الخام النفطي والعقارات/الأراضي، التي تسببت أساساً في صعود غير طبيعي لأسعار النفط ، بدءًا بالارتفاع الدراماتيكي في سنة ,2005 وتجاوز حاجز 100 دولار في السنة الحالية 2008 قبل شهور خلت والعودة القهقري السريع حالياً. . كل هذا التأرجح الحاد جاء بسب الاقتصاد المنفوخ دولياً وإقليمياً ومحلياً، حيث صارت الأسواق والاقتصادات تحت رحمة مملكة المضاربين!
 
صحيفة الوقت
25 اكتوبر 2008