المنشور

مـن‮ ‬يمـلك الإنتــرنت؟


السؤال أعلاه سؤال معقد ينجمُ عن المقدرة الهائلة التي تمتلكها هذه الشبكة على اختراق الحدود والحواجز، والوصول إلى مختلف شرائح المتلقين في كل القارات وبلغات مختلفة.  هناك دراسات مُوثقة عن أن الانترنت، كما هي سوق المعلومات كلها، خاضعةٌ للأقوى في مجال الإعلام والمعلومات، خاصةً وان حجم المادة المبثوثة بالانجليزية هي الطاغية على شبكة الانترنت مما يجعل الغلبة للثقافة الانجلوسكسونية. لكن هذا ليس بالضبط هو الموضوع الذي نحن بصدده، والذي فجرته منذ سنوات معركةٌ دارت بين القضاء الفرنسي وبين موقع ” ياهو” على الانترنت، وهو في الواقع اكبر من موقع لأنه يقدم خدمات عدة بينها البريد الالكتروني والإعلانات وحتى المزادات العلنية.  وهذه الأخيرة بالذات هي ما فجر المعركة، حين تقدمتْ لجانٌ ناشطةٌ ضد الدعاية النازية في فرنسا بدعوى أمام محكمة فرنسية ضد الموقع لقيامه بتقديم مزاد للتذكارات النازية، وبينها نماذج من الصليب المعقوف والبذلات الرسمية والميداليات، وطالب المدعوون القضاء بان يمنع مستخدمي الكمبيوتر الفرنسيين من الدخول إلى موقع” ياهو” الذي يقدم هذه المزادات.


أوروبا المُثقلة بذاكرة جرائم النازية في الحرب العالمية الثانية وسنوات الاحتلال الألماني ما زالتْ مرعوبةً من أية دعاية جديدة للنازية، فكرةً وسلوكاً، لكن المشكلة نشأت حين استجاب القضاء الفرنسي للدعوى المرفوعة أمامه وأمهل شركة ” ياهو” ثلاثة شهور لإيجاد وسيلة تمنع بموجبها المستفيدين الفرنسيين من دخول الموقع الذي تُباع عليه تذكارات النازية، وإلا فإنها ملزمة بدفع غرامةٍ عن كل يوم تأخير بمبلغ ثلاثة عشر ألف دولار أمريكي.  وقد ردت “ياهو” مُتسائلة عن مدى صلاحية محكمة فرنسية في الحكم على موقع أمريكي، ومُبينة صعوبة بل واستحالة تنفيذ هذا الحكم، خاصة وان الولايات المتحدة لا تضع قيوداً على حرية إنشاء المواقع على شبكة الانترنت أياً كانت طبيعة هذه المواقع.  وحتى قبل سنوات كانت هناك إحصائية تشير إلى وجود حوالي ألفي موقع تروج للعنصرية والنازية الجديدة وتَفوق الجنس الأبيض وتحض على كراهية الأجناس الملونة، مستفيدةً من نطاقِ الحرية حيث ترفض الولايات المتحدة حتى الآن المشاركة في أية آلية لفرض نوعٍ من الرقابة على الانترنت. هذه القضية أثارت أسئلةً لها طابع قانوني وأخلاقي وثقافي وسياسي، وتساءل مدير “ياهو” عما إذا كان هذا الحكم القضائي يُشير إلى رغبة في جعل الانترنت قاصرةً عن تجاوز الحدود، كما هو حال الإعلام التقليدي الذي كان خاضعا لرغبات وحسابات الحكومات.


طبيعة الخدمة في شبكة الانترنت تجعل من المستحيل التَقيدْ بقوانينِ جميع الدول في آنٍ واحد، ودار حديث أيضاً انه في حال قُدر للحكم الفرنسي أن يُنفذ، فان ذلك سيشُجع حكومات الأنظمة القمعية على اللجوء إلى نفس الأسلوب لتعويق أداء مواقع الانترنت التابعة للمنظمات المدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. يطرح ذلك للبحث سؤالاً جوهرياً عمن يملك الانترنت، وقد تتعدد الأجوبة على هذا السؤال، لكن تبقى نقطةٌ جوهريةٌ ثابتة مفادها أن هذه الشبكة قد أنهتْ عهوداً بكاملها، ودشنت عصراً جديداً لم يعد بوسع أحد التحكم في سهولة وسلاسة تدفق المعلومات فيه، بصرف النظر عن طبيعة الرسالة التي تتضمنها هذه المعلومة أو تلك.
 
الأيام 23 اكتوبر 2008