المنشور

ثلاث شـهادات روسـية عن حـرب أكتـوبر (1)

كانت اكبر خطيئة ارتكبها الرئيس المصري الراحل أنور السادات بحق جيشه وشعبه وامته العربية عشية الاستعداد لحرب أكتوبر قيامه بطرد الخبراء والمستشارين الروس العسكريين والذين يقدر عددهم حينذاك، ان لم تخني الذاكرة، بثلاثة آلاف خبير ومستشار عسكري، وذلك في سياق خطوات تقاربه المتلاحقة المبيتة نحو الولايات المتحدة، مصورا ضمنيا هؤلاء الخبراء والمستشارين وكأنهم قوات احتلال اجنبي، في حين ان مصر نفسها هي التي استقدمتهم في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لمساعدة مصر من اجل اعادة بناء قواتها المسلحة المدمرة اثر هزيمة حرب يونيو 1967 مع اسرائيل.
وحينما استلم السادات السلطة بعد وفاة عبدالناصر لم تكن مهام هؤلاء الجنرالات والقادة والخبراء العسكريين السوفيت قد انتهت كليا بالرغم مما انجزوه من مهام عديدة في مساعدة مصر على اعادة بناء قواتها المسلحة والتي في مقدمتها تدريبها على كيفية استخدام الاسلحة الجديدة المتطورة التي زود بها الاتحاد السوفيتي مصر بعد هزيمة يونيو فضلا عن مساعدتها على وضع الخطط اللازمة لمعركة عبور القناة وتحرير شبه جزيرة سيناء.
ومن حسن الحظ ان السادات قد أبقى على عدد محدود من الجنرالات الروس المستشارين والخبراء، وكان من ضمنهم الجنرال محمود جارييف كبير المستشارين العسكريين بالاضافة الى عدد محدود، والذين ما كانت قيادة الجيش المصري تستطيع الاستغناء عنهم للمستلزمات الفنية العسكرية الضرورية والطارئة المتعلقة بصيانة وتشغيل واصلاح المعدات والآليات العسكرية الجديدة التي زودت موسكو بها القاهرة.
ويعد هذا القائد العسكري السوفيتي الكبير من كبار القادة العسكريين الروس الذين يتمتعون بمؤهلات وخبرات عسكرية عالية وكبيرة، فقد سبق ان شارك في الحرب العالمية الثانية لصد الهجوم العسكري الالماني النازي على روسيا ابان تلك الحرب. وقد عين في عام 1970 مستشارا عسكريا رئيسيا لهيئة اركان القوات الحربية المصرية. وفي عهد السادات، وتحديدا خلال عامي 1971-1972، تم تكليفه بتقديم مساعدة للقيادة العسكرية المصرية لرفع جاهزية الاستعداد العسكري الميداني للجيش المصري بما في ذلك ادارة فرق الصواريخ والمدفعية السوفيتية المضادة للمقاتلات الجوية الاسرائيلية في حرب الاستنزاف واستعدادا لمعركة التحرير القادمة.
كما يكشف الجنرال السوفيتي جارييف في لقائه مع قناة روسيا اليوم انه تأكد له من مصادره ومعلوماته الخاصة توجه السادات للابتعاد عن الاتحاد السوفيتي والتقارب نحو امريكا منذ اطاحته برفاق عبدالناصر المتمسكين بخطه الوطني القومي في 15 مايو عام 1971، وانه رفع تقارير بذلك لمخابرات بلاده وللقيادة في موسكو لكنها لم تصدق او تكترث بتقاريره. ويضيف انه ذات مرة قال له السادات اثناء احدى المناورات العسكرية «ساعدوني على استرجاع عشرة سنتيمترات من الضفة الشرقية فقط وسأصرخ أمام الملأ ان العالم نسي قضية الشرق الأوسط، وسأحرك من جانبي الضغوط الدولية على اسرائيل لتنسحب من بقية الأراضي المصرية المحتلة في سيناء«.
وهذا ما يفسر، حسب جارييف، سر عدم توغل الهجوم المصري باتجاه المضائق والممرات المحتلة داخل سيناء. ويؤكد جارييف ان حتى ثغرة الدفرسوار كان المستشارون العسكريون السوفيت على علم بها قبل الحرب وحذروا القيادة المصرية بخطورتها. والاغرب من ذلك انه كانت ترابط فيها أو على مقربة منها كتيبة لاحدى الدول الخليجية كانت تعيش في مخيماتها برفاهية اشبه بمعيشتها في فنادق الخمسة النجوم.. فكل ضابط له مساعدوه وخدمه الخاصون، والمخيمات كانت مكيفة ومزودة بالثلاجات و«العفش« الثمين والمؤن الغذائية الشهية المميزة. وان هذه الكتيبة الخليجية فرّت منذ بدايات الساعات الأولى للهجوم الاسرائيلي باتجاه «الثغرة«.
واعترف الجنرال الروسي جارييف بخطأ موسكو في عدم مساندة الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية الراحل في صراعه ورفاقه القادة السياسيين من جهة مع الرئيس السادات من جهة اخرى بعد ما أفصح الأخير عن نواياه المبكرة بالاتجاه سياسيا نحو امريكا والتحالف معها. وقال إنه ذات مرة اتصل الفريق فوزي بالسفير السوفيتي شاكيا له توجهات وتصرفات السادات المريبة للتقارب مع واشنطن حتى في الشؤون العسكرية، لكن السفير رد عليه بأن عليكم التعاون مع قيادتكم السياسية وان السادات حينما سمع هذه المكالمة التي سجلتها المخابرات عض أصبعه ندما لافلات السوفيت، لانه كان يود اتخاذها ذريعة لطرد المستشارين السوفيت حينئذ فيما لو أعلن السفير تضامنه مع الفريق فوزي في المكالمة الهاتفية.
ويضيف كبير المستشارين العسكريين الروس قائلا إن السادات كان يفتعل اجترار الشكوى من عدم تزويد السوفيت الجيش المصري بالاسلحة المتطورة الكافية في حين انه لا يطلع جيشه على أنه لا ينوي تحرير سيناء كاملة وان الهدف من المعركة القادمة هو مجرد استرجاع بضعة كيلومترات فقط من سيناء.
ويؤكد الجنرال جارييف انه كان من الممكن تطوير عملية العبور وتحرير الضفة الشرقية من القناة لو كان السادات يخطط فعلا مقدما لمعركة من هذا النوع، وبخاصة في ضوء الملاحم البطولية التي اجترحها الجنود المصريون طوال الحرب، وتمكنهم السريع من استخدام الاسلحة الجديدة المتطورة التي زودت بها موسكو الجيش المصري.
ولعل شهادة هذا القائد العسكري الروسي الكفؤ والمجرب تتطابق مع شهادتي كل من الكسندر (…) والملحق العسكري بالسفارة السوفيتية في القاهرة نيكولاي ايفلييف.

صحيفة اخبار الخليج
21 اكتوبر 2008