المنشور

آفاق الاشتراكية

كل مشروع وطني وديني وإنساني يتجسد فيه بعضُ ملامح الملكية العامة والتعاون المشترك يُقال عنه اشتراكية.
لمقولة الاشتراكية الكثير من المعاني والتفاسير، وهو حلمٌ من أحلام الإنسانية، أسقط عليه الدينيون المحبون للعدالة نماذجَ من دياناتهم، حين بدأت الدياناتُ أخوةً مشتركة ومساعدات متبادلة في وجه الطغاة والاستغلاليين، ثم ذهبت هذه المشروعات وذهبت معها الأحلام الفاضلة.
ثم تسارعتْ أحلامُ الاشتراكية مع تسارع النهضة الأوروبية وتعاظم التفاوت بين الطبقات وضخامة الاستغلال للقوى العاملة حيث وصلت ساعات العمل إلى عشرين ساعة يومياً، وتعاظم النهب المنظم للشعوب(البدائية).
وانتبه المفكرون الحالمون لدور الصناعة والعلوم في إزالة الفروق بين الذكور والإناث، وبين الفقراء والأغنياء، وبين الشعوب والأمم، فكتبوا القصص والمفكرات عن إقامة جمهوريات تسود فيها العدالة وتـُقسم الخيرات بالتساوي بين البشر، لكن قصصهم ومستعمراتهم التي أقاموها ذهبت أدراج الرياح وأفلس وأُدين مؤسسو الاشتراكية الخياليون ووضع بعضهم في السجون أو المصحات العقلية.
وجاء زمنُ الاشتراكية (العلمية) واُستغلت فقراتٌ من كتب نظرية وبحثية لإقامة رأسماليات شرقية بدعوى أنها ممالك الاشتراكية الحقيقية، التي سوف تزول فيها الطبقات ويختفي الأغنياء الاستغلاليون ولا توجد فيها سوى الطبقات العاملة، ولكن هذه الاشتراكيات تكشفت عن رأسماليات حكومية اختفت منها، بعد تطور اقتصادي ضخم، المساواةُ بين الطبقات، وظهرتْ طبقاتٌ صغيرة ثرية استغلت غياب الديمقراطية لتثرى على حساب القوى العاملة.
ولكن حلم الاشتراكية لم يزل باقيا ومضيئا رغم الضربات والخيانات التي تلقاها من أعدائه ومن مريديه.
وكان هذا الحلم له دوره التعجيلي بالتطورات، وله أثره في زيادة الإنتاج، وظهور جمهوريات كونية رفعت الإنسان من عبودية الطين والإقطاع إلى غزو الفضاء ونشر الكهرباء والعلوم في شتى الأصقاع.
أصبح الوعي بالاشتراكية أكثر صعوبة، فالرأسمالياتُ غدت كونية، وهي أدت إلى تصنيع هائل للكوكب الأرضي، وقاربت بين الأمم، ومع هذا لم تزل قضايا الفقر العميق والثراء الفاحش تفرق بين مليارات البشر وبضعة ملايين مسيطرة على ثلاثة أخماس الموارد البشرية.
وحين تقول شعوب وأمم: إنها متمسكة بأرثها فهي لا تريد المضي في دروب الرأسمالية الوعرة التي لابد من السير فيها مع ذلك.
لكن الاشتراكية سوف تتحقق ليس كانقلاب من انقلابات الثورات الفرنسية والروسية والعراقية، فالاشتراكية سوف تكون تطورات متدرجة طويلة تستغرق قروناً، فهي سوف تتأسس على تطورات تقنية هائلة، والبشرية المتقدمة سوف تتمكن من تصنيع أغلبية المواد الضرورية بوفرة هائلة، ونرى بوادرها الآن في الثورات التكنولوجية والمعلوماتية، وحين تعمم هذه الثورات في كل القارات فسوف يكون النتاج هائلاً.
كذلك فإن تطورات هائلة على صعيد الثقافة والعلاقات الاجتماعية سوف تتكون، وستقاوم هذه الثقافاتُ التراثَ العتيق بأنانيته وتعصبه وعدوانيته، وهو تراثٌ هائلٌ من الأحقاد بين الطبقات والأمم والأجناس لن يزول إلا في مئات السنين.
وكعادتها فإن أممَ الغرب المتقدمة ستقود هذه الإنسانية الجديدة، وسوف تقوم طبقاتُ العمل والتضحية والثقافة الرفيعة بقيادة الإنسانية ونشر الحضارة الجديدة، ويؤسس ذلك ليس الكلام بل مستويات التقنية المتطورة، والمترابطة مع مؤسسات سياسية منتخبة يقلُ فيها تأثيرُ القوى الاستغلالية، ويتشكل حكمُ الجمهور فيها عبر صراعات وتطورات في العمل والأخلاق.
هذه التقنيات الثورية والأخلاق الجديدة والثقافة الإنسانية والمؤسسات السياسية المختلفة، سوف تعم أقطار الأرض، لكن كيف ذلك؟ بأي مستوى؟ وبأي أشكال ملموسة؟ إن هذا كله خاضع لتطورات المستقبل وعمل الشعوب في كل بلد وقارة، وعلى تراكمات الثورة العلمية حتى على مفاجآتها.
لكن الإنسانية الآن كتبت بعضَ السطور من هذا الكتاب الضخم، فالاستغلال يتضاد مع تسارع التقنيات وحجم الثروات المتراكمة ويؤدي إلى خراب الأغنياء والفقراء معاً، ووجود قارات فقيرة معوزة مرفوض، ويؤدي إلى انفجرات خطرة، ووجود أقليات تتمتع بأغلبية الثروة البشرية لا يمكن أن يستمر. لكن المشعل لهذه الاشتراكية هو تسارع قوى الإنتاج إلى درجات هائلة تجعل فيها الأسعار وأثمان السلع في اقصى تدنيها.
وكان ماركس قد تنبأ بسقوط آلي للرأسمالية الغربية، بسبب تعاظم نمو التقنيات وخضامة حجم تراكماتها في رأس المال مما يؤدي إلى انخفاض الأرباح كما أوضحنا في مقال سابق، وهذا لم يتحقق أوروبيا وهو يتحقق في عالم كوني صارت فيه الرأسمالية معولمة، فالانسداد التدريجي أمام الشركات وأمام التوزيع وضيق الأسواق المستمر سوف يكتملان في خاتمة المطاف، فلا يمكن لكل الأمم أن تنتج بكميات هائلة من أجل التصدير فالأسواق لها حد معين، وهذا التشبع الذي قد يؤدي إلى صراعات حادة على الأسواق لا يمكن حله إلا بأمم متحدة اقتصادية تعاونية في كل منطقة وعلى مستوى العالم.
فالأمم والقوى العاملة سوف تسيطر تدريجيا على عملية الإنتاج والتوزيع، بحيث لا تضيع ثمار العمل في الاستهلاك البذخي أو في الصراعات على الأسواق والمواد الخام.
هذا مشروع طويل تقوم به الإنسانية أما أن تنبثق الاشتراكية كمشروع عسكري وانقلابي بعد سيطرات جماعات تعلن زوال الطبقات، فهو أمر سياسي تعجيلي في دول تعاني ضائقة معينة، لا يلبث بعد زوال التعجيل أن يظهر على حقيقته، كعمليات تنمية رأسمالية متنوعة كما حدث في العديد من الدول، ولايزال بعضها يدعي الاشتراكية رغم تخلفه الشديد وتجاهله شروط الاشتراكية وهي الثورات الكبرى في قوى الإنتاج والتقنية وفي تطور وعي الإنسان وعلاقاته وثقافته التي تغدو إنسانية مضحية.

صحيفة اخبار الخليج
21 اكتوبر 2008