المنشور

من دروس الأزمة

مع الاعتراف بأن الأزمة المالية كارثية وذات طابع عالمي، هناك من يظل يردد «إننا في مأمن!». ولذا فإن الإجراءات للحد من آثارها تتخذ طابع ردود الأفعال المتشتتة، وليست المنظومية الطابع. وذلك يشي بأن المقبل أشد وطأة. دعونا نرى ما يقوله التشريح الواقعي للأزمة.
بَانَ للجميع الآن أن «خطة بولسون للإنقاذ» على علاقة بحملة الانتخابات الرئاسية ومحدودة بمرحلتها الأولى فحسب (700 مليار دولار) ولمدة لا تتعدى شهرين أو ثلاثة. وبعد إقرارها ارتفع الدين إلى 2,10 تريليون دولار، وتهدف الخطة إلى رفعه لأكثر من 13 تريليون. وإلى جانب ارتفاع عجز الميزان التجارب لأكثر من 455 مليار دولار فإن الوضع محفوف بمخاطر العجز السيادي. إذاً، فبعد انقضاء مفعول «خطة بولسون» (بعد الانتخابات) لا يستبعد أبداً أن يغدو انهيار المصارف غير قابل للسيطرة.
لقد تراجع الإقراض فيما بين المصارف إلى حد كبير، وكذلك إقراض المؤسسات والقروض الاستهلاكية. ولذلك فقد كان من المحتم حدوث تقلص الطلب الاستهلاكي والكساد، ما انعكس فوراً على آفاق قطاعات الاقتصاد الفعلية. أسعار «داو جونز» انخفضت إلى ما من دون 10 آلاف نقطة، و«نازداك» إلى أقل من .2000 السوق الأميركية تستهلك نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ولذلك فإن حالتها سرعان ما انعكست عالمياً لتنهار أسواق المال والبورصات في أوروبا، آسيا، والخليج وغيرها آخذة شكل «منشار الأزمة» التقليدي: ركود – كساد جزئي – ركود جديد أكثر عمقاً..
لقد تضافرت الأهداف الانتخابية وأفق الكساد المقبل لتهبط بأسعار خامات النفط إلى حدود 70 د/ب. وانعكس ذلك على أسواق الخامات الأخرى ما عدا سوق المعادن النفيسة والنادرة التي أصبح اقتناؤها بمثابة أأمن ملجأ من الأزمة حتى وإن تراجع سعر الذهب بسبب ارتفاع الدولار مؤقتاً.
أما سعر الدولار نفسه، فقد كان يفترض أن يستمر في الانخفاض بسبب ضعف الاقتصاد الأميركي. لكن ما أدهش الكثيرين هو تعزز مواقعه. لقد حدث ذلك بفعل عاملين: استقرار سعر الفائدة عند 2% وخروج المستثمرين المكثف من الأدوات المالية المقومة بالدولارات. حجم سوق هذه الأدوات يزيد عن 40 ترليون دولار(1). والخروج منه ممكناً فقط عبر ما يسمى «النافذة الدولارية» التي ضاق إطارها على حجم تلك السوق. ولذلك فقد نشأ طلب محموم على الدولارات، خصوصاً السائلة، وهو ما عزز كثيراً سعر الدولار التبادلي. لكن هذا لا يجب أن يعطي الحجة أبداً للتمسك باستمرار الربط بالدولار. فهذه الحالة لا تشكل اتجاهاً طويل الأمد. ستمتد، لنقل إلى ما بين أشهر عدة وسنة، حيث سينتهي الأمر إلى انهيار أكبر للدولار الذي سيحاكي وقتها حالة الاقتصاد الأميركي.
أخذ الكساد الاقتصادي يؤدي إلى ازدياد البطالة وتراجع الأجور الحقيقية للناس، ما سيضيق سوق الاستهلاك ويحوله باتجاه تزايد وزن الطلب على السلع والخدمات الضرورية حياتياً. سيدهور ذلك بشدة وضع «الطبقة الوسطى» في بلدان المليار الذهبي التي تعودت على نمط معين من الاستهلاك، لكنه سيحدث أثره الأسوأ على السكان الفقراء في البلدان النامية، حيث يصعب تأمين الحد الأدنى الضروري للمعيشة. وسيزيد ذلك من حدة الصراع الاجتماعي والدولي من أجل الوصول إلى الموارد الحياتية الضرورية.
تغيرات الطلب الاستهلاكي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار على السلع والخدمات الضرورية، وقبل كل شيء المواد الغذائية بما في ذلك مياه الشرب والأدوية والأدوات المنزلية. ويمس ذلك خصوصاً البلدان التي تعتمد على الاستيراد ولا تملك اكتفاءً ذاتياً من المواد الزراعية والصناعية. أما البلدان التي تستطيع أن تقي نفسها شر «الجوع والبرد» فستكون في حال أفضل. وإذا كانت بلداننا الخليجية تستطيع سد بعض حاجاتها من المنتجات النفطية فإن من السهل تحديد الحلقة الضعيفة في اقتصادنا، وهي الاعتماد الغذائي على السوق العالمية. ويرى بعض الاقتصاديين أن الاستثمار في الزراعة في الوقت الجاري هو الأفضل من بين الخيارات الأخرى.
ثروات رجال الأعمال الخليجيين قائمة أساساً على الرسملة السوقية لممتلكاتهم من الأسهم والأوراق المالية والعقارات وغيرها. أما النقد، وخصوصا السائل، لا يشكل سوى جزء ضئيل من أصول أصحاب المال. وعندما كانت مؤشرات المال وأسعار العقار في ارتفاع تزايد بشدة عدد رجال المال وثرواتهم. وتحت رهن هذه الممتلكات التي كان يبدو أن لا حدود لها، اتجهوا بنشاط نحو الاقتراض وإعادة الاقتراض من المصارف الغربية التي قابلتهم دائماً بتلبية الطلب. لكن عندما ارتدت العملية عكسياً فتهاوت أسواق المال والأسهم وتآكلت أسعار العقارات وجد صاحب المال الخليجي أن المليارات العشرة التي كان يملكها أصبحت فجأة تساوي نصفها أو أقل، وغداً قد لا تساوي حتى ملياراً واحداً. ثرواته هي هي، لكن قيمتها ليست هي. مرارة هذه الحقيقة يطعمها عند طلبه لقروض جديدة. الممول الأجنبي انسحب من السوق منذ فترة، القرض المحلي إذا وجد فبشروط أقسى من السابق. الدولة ستصب مالاً في المصارف اعتماداً على فيض المال السابق نعم، لكن محدوداً بتراجع أسعار النفط إلى نصف أعلى مستوياتها في الأشهر الماضية. ما الذي سيفعله رجل الأعمال؟ إنه ليس المستثمر الإنتاجي المرتبط بماله كارتباط الفلاح بأرضه أو آل فورد بصناعاتهم. إنه مجرد رجل مال، أخذته فقاعات المال أي مأخذ. إنه ولو بعد حين سيخرج إلى السوق باحثاً عن السيولة.. سيبيع ممتلكاته قبل أن «تجف» أسعارها: لقد جاءت سهلاً وتذهب سهلاً أيضاً.
وليست الدولة الخليجية بأفضل حال. فمع تراجع الاستهلاك العالمي الذي كانت القروض قد سخنته سيتراجع إنتاج السلع والخدمات. وعليه سيتراجع الطلب العالمي على الخامات وفي مقدمتها النفط وستهبط أسعاره. وبما أن رجل الأعمال مالي وتاجر أساساً والدولة ريعية أساساً فكلاهما سيجد نفسه أمام القدر ذاته. ويتبين أن «حبة خال» التنمية الحقيقية لم تنبت، للأسف، لا على خد رجل الأعمال ولا الدولة. والحال هذه فإن الاستمرار في «modus vivendi» (2) السابق سيكون مكلفاً وقصير المدى أيضاً. خلاصة القول إن التحرك الخليجي لصد الأزمة جاء وفق السيناريو التعبوي الذي ينشد الحلول السريعة من أجل وقف الخسائر الظاهرة. بينما الذي يطرح نفسه بإلحاح هو خطة التحديث المنظومي للاقتصاد الوطني. أي إعادة بنائه على أساس توازن قطاعاته وترابطها العضوي ليغذي كل منها الآخر بما يكثر الاقتصاد ذاتياً من دون الاعتماد على استنزاف النفط والغاز.
[1] راجع: « Expert»، 2008,10,15
[2] مصطلح لاتيني يعني نمط الحياة المكتسب.

صحيفة الوقت
20 اكتوبر 2008