المنشور

أسرار حرب أكتوبر.. إلى متى؟

لعل واحدة من أعظم الرزايا التي ابتليت بها شعوبنا العربية لعدم استفادتها من هزائمها وانتكاساتها السياسية والعسكرية على حد سواء تتمثل ليس في تغييب ثقافة المراجعة والنقد الذاتي فحسب، بل وما يرتبط بهذا التغييب ويتداخل معه من تغييب ومصادرة لحق الحصول على المعلومات المرتبطة بتلك الهزائم والانتكاسات، وهذا ما دأبت على ممارسته الأنظمة الشمولية العربية، بدءاً من هزيمة 1948 وليس انتهاء بنكسة .1967 وعلى الرغم من مرور ستة عقود على هذه الهزائم، وعلى الأخص العسكرية منها، فإن المعلومات عنها مازالت أسراراً في أرشيفات المؤسسات العسكرية لهذه الأنظمة يُحظر نشرها حظرا باعتبارها أسرارا عسكرية قصوى في منتهى الخطورة. والأغرب من ذلك انه لا يشذ عن هذا الحظر حتى المعلومات المتعلقة بحروب ومعارك الانتصارات، المتفرقة منها والكبرى، كحرب أكتوبر 1973 على وجه الخصوص التي خاضتها مصر وسوريا ضد إسرائيل من أجل تحرير أراضيهما المحتلة (الجولان وسيناء). على عكس الحال في الدول الديمقراطية الغربية التي تضمن كفالة حق وحرية الحصول على المعلومات، العسكرية منها والأمنية أو السياسية. وتحدد تشريعاتها مضي فترة زمنية محددة على المعلومات المصنفة بأنها تضر بالأمن القومي وعادة ما تكون المصنفة بأنها «سرية للغاية« تحجب لفترة تتراوح ما بين 25 إلى 30 عاماً كما هو الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا. وإذا ما نحينا جانباً حربي 48 و56، فبالرغم من ان حتى هاتين الحربين لم يكشف النقاب عن المعلومات والأسرار الوثائقية الكاملة عن ملابساتهما فإن ما هو متوافر من معلومات عن حرب 67 مازال شحيحاً. ولولا مذكرات عدد من الضباط الذين شاركوا في هذه الحرب وكانوا شهوداً على فصولها الكارثية لما علمنا عنها شيئاً يذكر البتة حتى الآن. وإذ تمر هذه الأيام الذكرى الـ 35 لحرب أكتوبر المجيدة والتي استمرت 17 يوماً من 6 إلى 22 أكتوبر 1973، فإن هذه الذكرى المفصلية تكاد تمر مرور الكرام من دون الاستفادة من دروسها السياسية والعسكرية، وعلى الأخص الدروس السياسية والعسكرية في أسلوب إدارة المعركة تحت قيادة الرئيسين الراحلين المصري أنور السادات والسوري حافظ الأسد. على أن أبرز ما هو لافت للانتباه على المستوى المصري في هذه الذكرى دعوة وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية الرسمية إلى الافراج عن وثائق الحرب التي تتضمن شهادات القادة الذين حضّروا لمعركة العبور وشاركوا فيها بما في ذلك توجيهات القائد الأعلى للجيش وسجلات المحادثات الهاتفية العسكرية السرية طوال الحرب، والخرائط والخطط التفصيلية، وسائر المشاورات العسكرية والسياسية المتداولة بين قادة الأركان أثناء سير المعارك بدءاً من 6 أكتوبر وانتهاء بقرار وقف إطلاق النار المشئوم في 22/10/73 على إثر تزايد خطورة ثغرة الدفرسوار التي قاد النفاذ منها بمهارة بقواته الجنرال اريل شارون الذي أصبح بعدئذ رئيساً للحكومة الإسرائيلية منذ سنوات قليلة. وتساءلت الوكالة الرسمية المصرية للأنباء مستنكرة بشجاعة عما إذا يمكن لأجيال القوات المسلحة الجديدة وطلبة (الكلية العسكرية بالطبع من ضمنهم) الاستفادة من خبرات وتجارب تلك الحرب في البطولات والأخطاء، بينما الوثائق والمعلومات المتعلقة بتلك الخبرات والتجارب لاتزال في حرز أمين مصون مُودعة في الخزائن السرية جداً، وذلك بذريعة أن الصراع العربي ــ الإسرائيلي لم ينته بعد حتى بعد توقيع معاهدات «السلام« مع مصر ومنظمة التحرير والأردن؟ ومع أنه قد صدر عن لجنة تشكلت بعد مرور 20 عاماً من حرب أكتوبر عرفت بلجنة تاريخ الحرب برئاسة اللواء الراحل حسن البدري الملقب بـ «أبوالتاريخ العسكري المصري« تقرير شامل عن خفايا معارك هذه الحرب، إلا أن التقرير أُودع في أرشيف الأمانة العامة لوزارة الدفاع. ولا يلوح في الأفق القريب حتى الآن ما يشير إلى قرب الإفراج عن هذا التقرير الهام، وهذا أكده أيضاً الخبير العسكري اللواء جمال مظلوم، ولاسيما أن التقرير ــ حسب تعبيره ــ يتناول معارك في حرب أكتوبر خسرتها مصر. وما كان لها بالطبع أن تخسرها لولا سوء الإدارة السياسية الساداتية للحرب وبعض الأخطاء العسكرية. ولأن النظام «الاشتراكي« السوفيتي الشمولي السابق لا يختلف عن الأنظمة الشمولية العربية في حساسية وعقدة الخوف من عواقب كشف المعلومات السياسية والعسكرية أمام الباحثين وأمام الرأي العام بل هو مثلها الأعلى في ذلك، فإن هذا النظام وبالرغم مما مرت به علاقاته مع القاهرة في زمن السادات من جفاء وتوتر فقد ظل متحفظاً عن كشف ما يملكه من أسرار مهمة عن الحرب وظلت معلوماتها طي الكتمان حتى بالرغم من مرور 35 عاماً على هذه الحرب، بل وحتى بالرغم من مرور ما يقارب عقدين على انهيار الاتحاد السوفيتي. بيد أن في الذكرى الحالية الـ 35 على الحرب قامت قناة «روسيا اليوم« التلفزيونية بإماطة اللثام عن جوانب من أسرار هذه الحرب من خلال مقابلات أجرتها مع بعض الشخصيات القيادية والسياسية الروسية الذين كانوا شهوداً على الحرب وشاركوا في التخطيط لها، بل في معاركها، وهذا ما لم يكن معروفاً لكل العرب، وبالطبع ما كان الرئيس السادات يود أن يعرفه شعبه والشعوب العربية بسبب جنوحه اليميني المتزايد نحو أمريكا والغرب منذ تسلمه السلطة غداة وفاة سلفه الفقيد الراحل جمال عبدالناصر عام .1970 وحتى الآن بثت القناة ثلاث شهادات مهمة لكل من الجنرال محمود جارييف (كبير المستشارين العسكريين الروس في مصر)، وللجنرال الروسي الكسندر…، والملحق العسكري في السفارة السوفيتية بالقاهرة نيكولاي ايفلييف. وسنتناول بدءاً من الغد بالعرض والتحليل لأبرز وأهم ما ورد في شهادات هؤلاء القادة الروس الثلاثة.

صحيفة اخبار الخليج
20 اكتوبر 2008