المنشور

ملاحظاتٌ أوليةٌ حول الزلزال المالي الحالي


يتلخصُ جوهرُ الأزمةِ المالية العالمية الحالية، على ضوء الزلزال الذي نزل كالصاعقة على المركز المالي الأميركي العالمي المعروف بـ ‘وول ستريت’ وتداعياته عبر العالم في المراكز العالمية والإقليمية للبورصات والتخوم البعيدة (العولمة المالية)، المتأتية أساساً من أزمة الرهن العقاري الأميركي، الذي يجابه صعوبات كانت مرصودة منذ بعض الوقت، في كلمتين متجسدتين في فن (فهلوة) تسويق منتوج / بضاعة ‘الوهم الأخضر’ التي سوقتها منظومة الرأسمالية المعاصرة وذراعها المالي تحديداً في صورة صرة /رزمة جذابة، لتلبية الحاجة البشرية المُلِحة والمتعاظمة أبداً، المتمثلة في ضرورة الضرورات، ألا وهي تواجد سقفٍ فوق رأس المواطن أي سكن لائق له ولأسرته.


لكن أن يُترك الباب مفتوحاً على مصراعيه بلا حسيب أو رقيب للمضاربة الأخطبوطية / الطفيلية وبسندٍ من قِبَل الأخصائيين في شؤون الاستثمار والثراء السريعين في هذا الحقل الحيوي للناس وبتشجيع من قِبَل صناع القرار ومستشاريهم المرضى الأشبه بالتماسيح الجائعة، لهو من الأمور التي أقل ما يقال عنها أن السيل قد وصل الزبى فيما يتعلق بالجشع البشري، الذي لا قاع له.


فالأزمة الحالية تعكس المستوى النوعي من الأزمة الدورية البنيوية المتسارعة في متوالياتها المتراكمة التي ما فتئت تنخر في نسيج النظام الرأسمالي، حيث قام بأسوأ استخدام للمنجزات العلمية والتقنية في سبيل مصلحة الأقلية الضئيلة جدا على حساب الغالبية العظمى من الناس، بمشاركة الجوقة الرسمية الإعلامية/الإعلانية وغير الرسمية الثقافية/ الفنية، في خدمة ‘مصاصي الدماء’ المعاصرين؛ بُغية الاستحواذ ‘القانوني’ على مدخرات الفقراء وذوي الدخل المحدود. بشكل بات ملحوظا أكثر من أي وقت مضى آلية عمل الماكينة الدعائية الجبارة في فن حِيَل البيع والشراء أو ما يسمى بالتسويق المعاصر، الذي وصل إلى درجة من ‘الحِرفية’ والاحتيال فاقت كل التوقعات، وأضحت أغرب من الخيال!


ولنا أن نتصور المقدرة الجهنمية للنظام المالي السائد في تسويق بضاعة وهمية ليست لها مقابل مالي / مادي على الأرض! من هنا نرى بوضوح أن مظهر الصراع هو أيديولوجي / دعائي / ثقافي / نفسي بحت، أثبتت فيه المنظومة الرأسمالية السائدة انتصارها الحالي وكفاءتها في تجديد نفسها وإعادة إنتاج بضاعتها على الدوام، في الأمد المنظور، مادام الفكر البديل الذي يهفو لتجاوز الرأسمالية لم يثبت بعد كفاءته للناس وديناميكيته على أرض الواقع، بغض النظر عن ثرائه النظري والمعرفي وتجربته الخصبة!


مثلما يوجد في حياتنا البشرية واقع افتراضي يتكون من صور/ أوهام تعشعش في أذهان ملايين البشر في العالم المعاصر، كشكل متدنٍ من أشكال الوعي الاجتماعي المعاصر، مفصلٍ بشكل منهجي بواسطة وسائل الإعلام والمعرفة/المعلوماتية المرئية خاصة، وما يعكس ذلك من إدراك وهمي لا علاقة له بالواقع الموضوعي /الحقيقي، الذي تتطلب معرفته وعيا حقيقيا / تربويا مضنيا، لا تكترث له – بالطبع- المنظومة الرأسمالية المعاصرة، المنهمكة في شفط فيض الإنتاج المادي والخدماتي بل على العكس، منشغلة في مخططِ تضليلٍ منهجي للرأي العام مبني على الخداع. على التوازي من ذلك ‘يلمعُ’ سرابٌ من واقعٍ افتراضي وهمي، يُقدم على شكل بضاعة خدماتية، تفوق قيمتها الاسمية أضعاف وأضعاف المرات من قيمتها الحقيقية. والغريب (لنقل إنه من الطبيعي) أن المواطن المُجبَر، المملوء رأسه بخزعبلات منذ نعومة أظفاره، المحشو وعيه بثقافة استهلاكية طفيلية مركزة، لا يلبث إلا أن يلهث خلف ما يحتاجه وما لا يحتاجه من السلع الملموسة أو الخدماتية، مستسلما أمام الغول الثقافي الاستهلاكي المعاصر.


بتنا نلاحظ، في سياق المقارنة، أن الليبراليين الأقحاح (المحافظين خاصة) قد قللوا جداً من أي تأثير سلبي على النظام الرأسمالي نتيجة هذه الأزمة، وظلوا أوفياء لنظريتهم المخاتلة ‘ نهاية التاريخ’. وفي المقابل فإن الراديكاليين و’الثوريين المتمركسين’ قد جهزوا تابوت الرأسمالية ونزل اليسار المتطرف الميدان (حشداً وكتابة وتنظيراً) بشِيَعه وتوجهاته المختلفة بقيادة التروتسكيين (كالعادة)، المشهورين بالجَلبة والصخب في متراس واحد مع القوى الفوضوية والشعبوية والقومية وحتى الدينية، التي صبت جام غضبها على الشر الرأسمالي وكأن البنية أو المنظومات ‘ما قبل الرأسمالية’ كانت أفضل للبشرية! على أن الصوت الأكثر بروزا هو، صيحة الاستنجاد بماركس، التي جاءت من عدة جهات متناقضة! بتقديرنا.. لا يكفي طرح شعار ‘الرجوع إلى ماركس’ وهو شعار شعبوي / نصي ، غير دقيق يداعب مُخَيلة عَبَدة نصوص قشور الماركسية وحَفَظة الجمل الثورية.


لكن المطلوب تجاوز ماركس (ليست الماركسية / منهجه الجدلي) بمعنى أن ماركس حلل الرأسمالية بعمق- قل نظيره- في فترة سابقة، كانت تختلف في تركيبتها عن المنظومة المعاصرة، البالغة التعقيد والمليئة بالحِيَل والخداع والشبكات الأخطبوطية الأكثر ذكاء، تجربة ودهاءً من زمن ‘ماركس’. ‘لينين’، الجريء في كسره لقدسية النصوص، استطاع، في عصر لاحق وفي ظرف آخر بإبداعه العبقري من تجاوز ‘ماركس’ في رؤيته في عدة أمور أساس.


فالمطلوب إذاً تجاوز ماركس ولينين أيضا، لكن بأي معنى؟ بمعنى ضرورة الفهم العميق لحركة الواقع المعاصر (التعامل معه كما هو لا كما نتمنى) والإدراك العلمي لبُنية المنظومة الرأسمالية المعاصرة وتركيبتها الملتبسة والمخادعة/المخاتلة، كونها نمطاً بربرياً عصرياً من منظومة اجتماعية /اقتصادية تقتل وتسحق الحياة الإنسانية (اجتماعياً/ روحياً / خُلقياً) بجانب القضاء المتسارع على الطبيعة وتدميرها من الناحية الإيكولوجية برغم القناع الحضاري والتقدم التكنولوجي، على شرط عدم إنكار إنجازات الرأسمالية التاريخية والحديثة وإيجاد الجواب الشافي للسؤال الأصعب لعصرنا: هل انتفى الدور التحديثي والعصري للمنظومة الرأسمالية في التخوم الأكثر تخلفاً؟


كما يجب البحث عن الأسباب الموضوعية والذاتية التي أفضت إلى تجسيد وتلميع المجتمع الاستهلاكي (Consumerism) والاستسلام لمفهوم ‘اقتصاد السوق’ والنأي عن التدخل في آلية ضبطها. الآلية التي وضعتها المدرسة الكينزية (نسبة إلى الألمعي الاقتصادي البريطاني الكبير جون مينارد كِينِز 1883 – 1946). وأسباب الركون النظري والتطبيقي إلى الاقتصاديين النفعيين الكبار أمثال رائد المدرسة النمساوية / الإنجليزية / الأوروبية أولا (فريدريك فون هايك 1899 – 1992 / جائزة نوبل 1973) ثم تكملتها مدرسة شيكاغو (ميلتون فريدمان 1912 – 2006 / جائزة نوبل 1976)، التي دشنت مرحلة حرية السوق المفتوحة أو اقتصاد السوق، إلى درجة أن ‘تاتشر’ في وقتها صرحت بكل وقاحة من عدم وجود شيء اسمه مواطن بل إن الموجودَ مُستهلِكٌ والمجتمع ما هو إلا سوق للسلع (كأننا في غابة).


لذلك بات ضروريا المعرفة الحقيقية لسمة العصر وتوازن القوى والمرحلة الانتقالية الدولية (ثنائية القطب / القطب الواحد/ تعدد الأقطاب). والغور عميقا للبحث عن أسباب الضعف البين (النظري خاصة) لمن يحملون لواء التغيير الحقيقي من الولوج إلى مرحلة تجاوز الرأسمالية والسبل الكفيلة لذلك والضرورة القصوى للتربية النظرية والمقارعات الفكرية الجادة لتوحيد قوى ذوي المصلحة في التغيير وتقريب رؤاها، وتجميعهم حول النواة المستقلة الأساس (رأس حربة) لرافعة التغيير الكبير، لإنقاذ البشرية من الدمار الجمعي. بجانب عملية تهذيب سلاح الأيديولوجية الثقافية وكيفية تسويقها بالشكل الأمثل، لكنس الوهم السائد عند الكثرة الكثيرة من الناس العاديين والإنتلجنسيا من أن المنظومة الرأسمالية قد تتجاوز نفسها من الداخل تدريجيا وتلقائياً (منهاج الاشتراكيين الديمقراطيين – Social Democrats) بلا تعب أو نضال. أي أن العوامل الموضوعية (الاقتصادية) كفيلة لقبر الرأسمالية في حين أن المساهمة الإنسانية الذاتية، عبارة عن عملٍ لا طائل منه وجهدٍ ضائع! 

 
الوقت 18 اكتوبر 2008