المنشور

جردة حساب للنواب (2)


ونكملُ ما قالهُ الشيخ علي سلمان بعد فوز كتلة الوفاق في انتخابات الدورة الثانية من البرلمان، في التصريح السابق ذكره يوم 26/11/2006، فقد أضاف سعادته: (إن تحالفات الوفاق ستستمر). ولا يعني بها فقط تأييد بعض مرشحي الجماعات السياسية الأخرى بل كذلك استمرار التحالفات السياسية للمعارضة البحرينية وخاصة التحالف الرباعي أو ما سيرثهُ ويرافقُ المرحلة الجديدة بتكتيكاتها النفعية العابرة. ويهمنا أن نتابع جذور هذه العملية، فلم تكن تحالفات المعارضة التي لعبت فيها الوفاق دورا محوريا مسيطرا، سوى تحالف الضعفاء مع من يقود كتلة مهمة من الجمهور، ولم ينتج عن هذا التحالف ثقافة وطنية بحرينية تذوب المعسكرات المذهبية السياسية، وسواء كان ذلك على صعيد الجغرافيا، أي على صعيد المناطق الانتخابية، أو على صعيد الوعي وخلق ثقافة سياسية متجاوزة للاستقطاب المذهبي السياسي السني/الشيعي وتنحو باتجاه الوطنية.


فالتحالفُ الرباعي لم يُسند أعضاؤه المرشحون ولم يُوضعوا في المناطق المذهبية الشيعية المحكمة بل تـُركوا في المناطق السنية المذهبية. وكان هذا إشارة كبيرة مزعجة إلى أن التحالف شديد الهشاشة، وأن عقلية مذهبية شمولية قوية تقف وراء عملية الفصل هذه. وكانت هناك رموز وطنية نادرة في هذه الانتخابات بحيث كان إنجاحها في المناطق الشيعية يمثل اختراقا، ولكن اعتبرت هذه المناطق المحكمة مناطق مذهبية خاصة بالوفاق فقط، فسقط التحالفُ الرباعي وعجز أن يكون تحالفا وطنيا في مثل هذا الدرس القاسي. فلم تكتف العقلية المذهبية السياسية في الوفاق بخلق دائرة مذهبية شيعية بل شكلت دائرة مذهبية لتيار واحد فقط كذلك، فأسقطتْ أيضاً جماعةً شيعيةً مذهبية سياسية أخرى مجاورة لها في المرجعية العامة الدينية الكبرى لكنها لم تشترك معها في المرجعية الخاصة بشيوخ الدين المحليين، فضاقت الدائرة السياسية الوفاقية حتى لم تتحمل سوى دائرة سياسية ضيقة خاصة بتيار واحد.


إذاً فليس ثمة مرجعية ديمقراطية أو مرجعية وطنية. وبهذا فإن الوفاق حين دخلت المجلس الوطني دخلته وحيدة مجردة من إرثها النضالي القريب، وهذا يؤدي في المحصلة البرلمانية إلى إضعاف المساندة السياسية للكتلة، وعدم رفدها بالمساعدات المعنوية المتمثلة في توسيع دائرة الخبراء والمساندين والباحثين وتعميق التحالفات بأفق تنوعي حتى داخل الطائفة وليس بأفق عصبوي تنظيمي وحيد.


إن تحويل العمل البرلماني إلى عمل نضالي عميق ومسئول وجبهوي تم إلغاء قسم كبير منه، وبهذا فإن إحباطا شعبيا قد حدث في قسم من الجمهور السياسي، وتحولت الوفاق للعمل البرلماني من خلال كتلة وليس من خلال تيارات. صارت جهازا حزبيا ضيقا في السلطة التشريعية غير مرفود برفاق الأمس، الذين ظهر أنهم أدوات تكتيكية وليس قوى لبناء ثقافة وطنية نضالية أو ثقافة دينية ديمقراطية. إذاً لم تستمر تحالفات الوفاق، بل انشقت، وبدت كجماعة مذهبية سياسية تحركها عقلية محافظة غير محنكة سياسيا ومحدودة الآفاق الفقهية والسياسية. كان الانشقاق عقاباً لها على تفكيك التحالفات وعدم تطويرها وعن عجزها البرلماني عن الوفاء بوعودها. علينا هنا أن نقرأ مجموعةً من التناقضات السياسية التي أخذت تنمو من خلال هذه الوضعية، فقد أُلغيتْ تحالفاتٌ سابقةٌ على الدورة الثانية للبرلمان وهي تحالفات لم تشكل ثقافة وطنية بديلة عن ثقافة الوضع الطائفية، بل كانت أداة لتنظيم مذهبي لصنع صورة وطنية لم تكن حقيقية، فسقطت الصورة بحكم أن التنظيم المذهبي لم يعد يستخدمها، حتى ان الوفاق صار لديها مناطق محكمة أي مناطق هي فيها السلطة، ولا تريد أحدا أن يدخلها حتى رفاق الجبهة التحالفية والجماعات الشيعية الأخرى كذلك، وبهذا المضمون المذهبي السياسي ذهبت للبرلمان، ولابد لهذا المضمون أن يتكشف، من خلال أحداث ووقائع البرلمان، أن يظهر الجوهري أكثر من الخارجي.
في الدورة الثانية للبرلمان كان المضمون المذهبي الصراعي هو البارز، وكانت أي سياسة وطنية، وأي سياسة تستهدف (حل مشكلات الشعب المعيشية) على حد تعبير رئيس الوفاق عليها أن تركز في الممكن، لا في المستحيل، فيما يوحد الشعب ويحل قضاياه الاقتصادية والاجتماعية، وليس في تفجير الصراع السياسي.
وحل قضايا الشعب كالبطالة والفساد وإهدار الأموال العامة ورفع معيشة الناس ليست قضايا بسيطة بل تستوجب تكريس جهود جبارة وتكوين لجان وتحقيقات، ولكن يبدو أن هذه الجهود ليست ممكنة في المستوى السياسي العقلي للوفاق، ولا في مستوى خبرتهم وجذورهم الاجتماعية، بعد أن عزلت الوفاق نفسها عن تحالفها وعن القوى السياسية الوطنية وخبراتها، وإذا قلنا إنها تواجه حكومة متمرسة لديها خبرات على كل المستويات، فنصل إلى أنها ضيعت أشياءَ كثيرة، ثم ضيعتها الحكومةُ داخل أروقة البرلمان التي تسيطر عليه ضمناً ومن خلال أعمدته الأساسية، وأعطت الوفاق مجالاً محدداً، لم تحفر فيه بكفاءة.


نزلت الدورة الثانية عن مستوى الدورة الأولى التي كانت أقرب للوطنية، فظهر محورا المجتمع المذهبيان السياسيان وجهاً لوجه، ودخلت الحياة النزاع المذهبي السياسي في مستواها البرلماني كذلك، مما جعل المجلس متوتراً، كلُ فريق يتربصُ بالآخر خاصة في المسائل السياسية الكبيرة. أما المشاكل الوطنية العامة التي تتعلق بحياة الناس فإن الكتلة السياسية المذهبية السنية تقف مع الوفاق في ذلك، وكان هذا هو خيط الوحدة الوطنية الذي كان يجب أن تمسكَ به وتوسعَ منه، وكان هذا هو الممكن، لا المستحيل، ولكن للوفاق قدمين، الأولى في الممكن، والأخرى في المستحيل، الأولى في قضايا الشعب المعيشية، والثانية في تغيير النظام وهز أركانه، وفي الأولى يكون التعاون وفي الثانية يكون الخصام وانفلات حبل المجلس وفوضى الجلسات والشجارات والانسحابات. ويكون للوفاق عينان، الأولى داخل المجلس والأخرى في الشارع، فهي تريد أن تكسب الطرفين، فليس لها الصبر على مجالدة البيروقراطية الحكومية ومنازلتها بمشروعات القوانين وتدفق الأسئلة وتكوين اللجان، كما أنها تريد أن تبز المتطرفين من الطائفة الذين يرفضون الطريق البرلماني، ويؤكدون حرب الشوارع، فتقوم بحركات واستعراضات لكي لا تفقد الشعبية. كما أن العمل الحكومي تراكمت فيه عادات وتجري فيه تغيرات الأموال وتدفق الشركات، فتاهت المعارضة المذهبية، ولم تبحث بقوة ولم تحقق بدأب وتوجهت للاستعراض السياسي المبهر كحل يخفي ضعف الأداء.


أخبار الخليج 17 اكتوبر 2008