المنشور

أزمة جورجيا تربك القبارصة‮!‬


في اجتماع بروكسل التاريخي حول أزمة جورجيا، كان على 27 عضوا من الاتحاد الأوروبي أن يقفوا وقفة واحدة إزاء استقرار أوروبا الجديدة، أوروبا الخالية من الحروب، والتي تؤسس لعالم حر وديمقراطي، أوروبا التي تسعى لحل كل مشاكلها بالحوار السلمي، انطلاقا من مبادئ عدة وواضحة من أهمها احترام سيادة كل بلد واستقلاله وتكريس احترام القانون الدولي، في قارة عجوز تستنهض قواها باستنهاض قدراتها الكامنة، فبدأت بعض دولها في تشكيل تكتل اقتصادي جديد يناسب مرحلة التعددية القطبية.


في أجواء بروكسل وأزمة جورجيا المعقدة ذهب الأعضاء بروح الفريق الواحد، لمصادقتهم على بيان توافقوا بأن يكون متوازنا، بين خطاب الليونة والخشونة، بحيث تصبح العصا الأوروبية متوافقة لدول أوروبية تنتظر أن تكون شريكا في قضايا عدة، فلجورجيا آمالها وتطلعاتها في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، فكلاهما أصبحا عمودين لقاعدة واحدة، فالحلف الناتو غرس جذوره في القارة منذ الحرب العالمية الثانية، وكان ترسا لحماية الحلفاء والأصدقاء، ومازال يواصل هذه الدور مع فكرة الاتفاق على توسعته، وبإدخال أعضاء هم جزء حيوي من مكونات الاتحاد السوفيتي، وبذلك تصبح العلاقة أساسية.


 وان تحدثت أوروبا خطابها المختلف في أحيان كثيرة، فإنها تظل لها منطلقاتها في المصالح والرؤى لقضايا شتى دولية وقارية ومحلية. كان على “الناتو ( الحاضر الغائب) والاتحاد الأوروبي” في اجتماع بروكسل أن يصوغا بياناً مرناً، برغم حدة لهجة الانجليز والفرنسيين، فان الألمان والاسكندينافيين وصغار الدول، انحازوا إلى عدم التصعيد، فما زال هناك متسع من الوقت لمعالجة الأزمة بالحوار، وان كانت الدبابات تقف في مواقع لا تسر حكومة جورجيا ولا أقطاب الناتو وصقور أوروبا.


ما سمعناه في الأسبوعين الأخيرين من خطابات حادة ومضادة، خطابات التنديد ورد الفعل، من مفردات العزلة الى دكتاتورية النفط، ومن فصل الشراكة وتجميدها إلى عبارات فاقت التصور، حيث ترافقت مع تلك الجمل الدبلوماسية الرعناء، مساعدات عسكرية هنا وهناك، وتصعيد يدفع بحكومة جورجيا بالتمادي أكثر مما يمكنها على تحمله، فالخنجر في خاصرتها حاليا وليس في ظهر الرئيس الأمريكي المغادر قريبا، ولا خصر غوردن براون المعتم مستقبله في بريطانيا المتقلبة أوضاعها السياسية. فما الذي بإمكان قبرص الصغيرة ان تفعله داخل بيت كالاتحاد الأوروبي باتت عضوا فيه، إزاء صديق قديم وقف معها بقوة طوال فترة الحرب الباردة.


 دون تردد كانت قبرص تنظر للمسألة الجورجية بحذر شديد يختلف عن الدول الكبيرة، التي يهمها مصالحها الاقتصادية الكبرى وشركاتها العملاقة، وحنينها للماضي ولموروث فقدته مع الثورة البلشفية، دول تمثل أنياب حلف الناتو، وتحاول أن تدافع عن مرتكزاتها الإستراتيجية في القوقاز، في وقت لا ترى قبرص فيه المسألة إلا من منظور التوازن الذي لا يؤثر على قضيتها التاريخية وتقسيمها بين أثنيتين، ساهم الناتو والحيتان الكبار في دوره فترة الحرب الباردة.


كيف تتعاطى قبرص الصغيرة في الاتحاد مع الأزمة الجورجية؟


هذا السؤال ظل أمام الحكومة الجديدة، التي ارتبطت بتاريخ وثيق بالرفاق، الذين تشظت حدودهم ودولتهم، ولكنهم ظلوا بكل أسنانهم يمسكون الماضي من اجل بناء روسيا قوية تعيد للوضع العالمي توازنه، انطلاقا من أن العالم لا يجوز تركه محكوما بقطب واحد.


في هذا المناخ تحديدا كانت قبرص تفتتح أولى جلساتها للحوار السلمي من اجل توحيد الجزيرة بكل قوة، فذلك مرتكز مبدئي في التفاوض. والغريب أن روسيا والاتحاد السوفيتي سابقا، كانا على الدوام مع وحدة الجزيرة، منددا بالقسم الانعزالي، معتبرا أن ذلك اعتداء على سيادة الجزيرة ومنافيا للقانون الدولي. هذه “التقسيمة الموسيقية !!” عزفها الاثنان معا في وقت كانت تركيا وشمال قبرص تهددان بالانفصال، وقد حاولتا ذلك ولكنهما لم تنجحا لعدم اعتراف المجتمع الدولي بتلك الحالة، فعاش شمال قبرص بدعم تركي حالة عزلة دولية.


 ما تبدل في الأمم المتحدة ليس النص ولا مبادئ الفاعلين ولا حتى قاعات الاجتماع ولا الميكروفونات !، ما تبدل هو الوضع العالمي الجديد، وحدوث اختلال فيه، انعكس على وضعية المنظمة الدولية، التي بدأت تهيمن عليها القوى المنتصرة، فيما راح المعسكر الثاني يواصل انهياره وتدهوره ويتفكك، ويتحول إلى دول متعددة الاتجاهات والانتماءات، فصار حلم بعض دول المعسكر الشرقي اللحاق بحلف الناتو وعضوية الاتحاد الأوروبي. وانعكس ذلك التشظي والتفتت على دول البلقان الجديدة، فتعاركت روسيا بكل وضوح على مسألة كوسوفو وحق صربيا فيها باعتبارها جزءاً من حدودها الدولية، فيما أصرت الولايات المتحدة وحلفاؤها على أن كوسوفو لها حق أن تصبح دولة مستقلة، وتناسى الجميع خطاب العقل والمنطق والحق واحتكما إلى موازين أخرى، هي الكواليس الخلفية والصفقات وأصوات القذائف والدبابات، أثناء تقسيم يوغسلافيا السابقة، وتصميمها كخارطة جديدة.


اليوم انتقلت الأزمة من البلقان إلى مناطق القوقاز، لمعالجة قضايا سياسية واستراتيجية بحجج عرقية وتمظهر اجتماعي وثقافي ولغوي، ويافطات تم إعادة رفعها مرة أخرى تحت لواء “حق الشعوب في تقرير المصير، وتناسى الجميع مبدأ اندماج أقليات واثنيات عدة ضمن إطار حدود دولية شرعية لبلد ما وفق القانون الدولي، والذي تم الاتفاق عليه بعد الحرب العالمية الثانية”. لأول مرة يتفق الطرفان القبرصيان على مسألة واحدة هي عدم التورط بأزمة جورجيا، فهناك دعوة لتأييد الانفصاليين بإقامة دولتهم، في وقت يسعى الطرفان هنا في الجزيرة توحيدها بعد معاناة طويلة من التقسيم!



الأيام 17 أكتوبر 2008