المنشور

ملاحظات حول وحدة عمل قوى اليسار في العراق


يكشف الجدل والنقاش حول وحدة اليسار في العراق الحاجة إلى أن يكون هناك أولاً وضوح بشأن مفهوم اليسار، أي البعد ألمفاهيمي للمسألة، وكيف يتجلى في الواقع العراقي.


يتعين النظر إلى اليسار باعتباره يمثل حركة وقوى اليسار السياسي والاجتماعي، بمعنى أنها لا تقتصر على، ولا ينبغي أن تختزل إلى، مجرد أحزاب وتنظيمات سياسية يسارية. بل إنها تشمل، في جزء أساسي وبالغ الأهمية منها، الحركات الاجتماعية التي تناضل من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، دفاعاً عن الحقوق والحريات الديمقراطية والحقوق النقابية، وعن المكتسبات التقدمية للشغيلة وعموم الشعب، ومن اجل التقدم الاجتماعي والتحولات الراديكالية على صعيد الاقتصاد والمجتمع.


وتدخل ضمن هذا المفهوم لليسار الاجتماعي: النقابات، عمالية ومهنية، ومنظمات النساء والشباب والطلبة، وتنظيمات المثقفين، والحركات المدافعة عن حقوق الإنسان، وجماعات حماية البيئة، إضافة إلى الحركات المطلبية التي تنطلق لتحقيق أهداف محددة (على سبيل المثال: الحملة من اجل وقف العنف ضد المرأة ..).


أنها حركة تتسع صفوفها وتغتني مضامينها وتتنوع أشكالها وأساليب عملها على الدوام وباستمرار.



كيف يتجلى اليسار في الواقع العراقي؟


تتطلب الإجابة على هذا السؤال تفحص الواقع العراقي كما هو، مع التعرف على الإمكانات الكامنة والآفاق الواعدة للتيار الديمقراطي عموماً ولليسار بشكل خاص. نحتاج إلى التعرف على نقاط القوة والضعف في القوى التي تشكّل اليسار، ببعديه السياسي والاجتماعي، والى البحث المتواصل في سبل استنهاضها، وتطوير رؤاها، وقاعدتها الفكرية، وأطرها التنظيمية وأساليب نشاطها.
 
وحدة اليسار .. ماذا تعني؟


هناك تصورات وآراء خاطئة تختزل هذه الوحدة إلى عملية دمج واندماج، وتوحيد تنظيمات، وأشكال فوقية للوحدة، تؤدي بالنتيجة، وفي التطبيق العملي، إلى خلق عراقيل تعيق نهوض اليسار. بدلاً من ذلك، يجب تركيز الاهتمام على وحدة عمل قوى اليسار.


إذا تحدثنا عن “وحدة عمل اليسار”، ستنفتح عندئذ آفاق أرحب وإمكانات أكبر بكثير مما هو عليه الحال في الوقت الحاضر. وستبرز أمامنا عند ذاك أشكال وصيغ متعددة، متنوعة، لوحدة العمل: تنسيقية مثلاً، مؤقتة أو على مدى أبعد.


وستتطور هذه الأشكال وتبرز في مجرى النضال لتحقيق مشروع اليسار ألتغييري، وفي خضم النضالات الوطنية والديمقراطية والمطلبية (التي تجمع على نحوٍ وثيق بين الوطني والديمقراطي والاجتماعي). أي أن هناك ترابطاًً وثيقاً بين خوض هذه النضالات وتطور واغتناء أشكال وحدة عمل قوى اليسار.
عند ذاك، عندما ترتقي حركة اليسار إلى مستويات أعلى، ستفرض مهمات جديدة، أرقى، نفسها، على جدول عمل هذه الحركة.


وستكون هذه الأشكال (لوحدة عمل قوى اليسار) أكثر غنى وتنوعاً مما يمكن التفكير به على الصعيد النظري في الوقت الحاضر، أو يمكن التنبؤ به مسبقاً. ولكن على الشيوعيين، قبل غيرهم في حركة اليسار، أن يلتقطوا الجديد في خضم هذه التحولات، وحتى في أوضاع تتسم بالهيجان والاضطراب، ويُدخلوا إليها (إلى هذه الحركة) عنصر الوعي والتنظيم. وان لا يترددوا في قيادتها إلى جانب أفضل ممثلي هذه القوى الاجتماعية ومنظماتها (النقابية، الديمقراطية، الاجتماعية..)، الأكثر صدقاً وإخلاصاً والتصاقا بقضية الشعب، قضية الديمقراطية الحقة، وتمسكاً بحقوق المواطنة ومبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية، التي تجسّدها الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.


إن الأزمة المستفحلة ومأزق النخب الحاكمة، على كل المستويات، وتعثر مشاريعها، وتوق غالبية الشعب إلى التغيير، يوفر ظروفاً مؤاتية لبناء حركة يسار قوية عميقة الجذور.. تتصدر النضال من اجل القضية الوطنية الكبرى (إنهاء الاحتلال وجلاء قواته والتصدي لمشاريع الهيمنة الأمريكية)، وقضايا الحقوق الديمقراطية والاجتماعية، وخوض الصراع وحسمه لصالح التطور الديمقراطي ودحر مشاريع الدولة الطائفية والاستبدادية، ومهمات إعادة بناء الاقتصاد الوطني والتصدي لمشاريع الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق الحر المنفلت.


وستتحول أفكار ورؤى اليسار الديمقراطي عندئذ إلى قوة تغيير مادية هائلة، بعد أن تستحوذ على عقول وأفئدة الملايين من العراقيين الطامحين إلى التغيير، والى حياة أفضل.. لينخرطوا في حركة تعبّر حقاً عن إرادة غالبية الشعب، وتمكّنهم من إدراك قدرتهم على تحقيق التغيير المنشود بإرادتهم الحرة.


أي أنها، أولاً وقبل كل شيء، معركة أفكار كبرى.. معركة رؤى ومشاريع وبدائل.. وصراع على المستقبل. ويتعيّن على قوى اليسار أن تدرك إن البلاد والمجتمع أمام مفترق طرق، وأن مصيرهما لعقود مقبلة يتوقف على حصيلة الصراع الجاري، على إعادة بناء الدولة، محتواها وشكلها، وما يتمخض عنه. وهذا يتطلب من الشيوعيين المزيد من وضوح الرؤية، والوضوح في الهدف، والسبيل إلى تحقيقه.


وهنا، لا بديل عن التوجه إلى الشعب، ومنظماته وأطرها.. إلى القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة الرئيسية في تحقيق أهداف مشروع اليسار، الذي ينسجم في المرحلة الراهنة مع “المشروع الوطني الديمقراطي” الذي أطلقه الحزب الشيوعي العراقي في آب 2007، ولكنه أبعد مدى وأكثر جذرية، خصوصاً على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
 
فهذا هو السبيل إلى تغيير تناسب القوى السياسي والمجتمعي لصالح البديل الديمقراطي .. لابد من العمل بدأب ومثابرة – وهذه هي مهمة اليسار، وفي القلب منه الحزب الشيوعي – على تجميع هذه القوى الحية في تيار شعبي واسع لدعم “المشروع الوطني الديمقراطي”، لينتزع بجدارة، من دون فرض أو افتراض مسبق، قيادة هذا التحالف السياسي – الاجتماعي.. والمضي بثبات على طريق تحقيق البديل الديمقراطي، البديل الوحيد المعوّل عليه بالضد من مشاريع الطائفية السياسية والاستبداد أياً كانت أشكاله.. لإنهاء الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية والاستقلال وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.


__________
قدّمت هذه الملاحظات في الملتقى الفكري الثالث لمنظمات الخارج للحزب الشيوعي العراقي، “ملتقى الشهيد كامل شياع”، المنعقد في لاهاي/هولندا في الفترة 26-28 أيلول 2008، الذي كان مكرّساً للبحث في مستلزمات بناء الدولة المدنية الديمقراطية. 
  
  
  
   
  
 
المصدر:  صحيفة طريق الشعب العراقية