المنشور

مصل نقص الديمقراطية


في منطقة عامرة وحافلة بالأحداث الجارية سخونةً كالمنطقة العربية، يمسي الهدوء فيها استثناءً نادراً، إن لم يكن غير طبيعي، وهو ما يكفي لإشاعة التوجس والقلق من سيادة هذه الحالة غير المألوفة، مع أن نشدان الهدوء والاستقرار هو الأصل وهو الأمنية العزيزة التي تحلم بها شعوب المنطقة منذ أمد بعيد فلا تطالها.


نعم، وعلى غير العادة، الهدوء يكاد يسيطر على كافة الساحات العربية بشكل عام، فلا أحداث جسام، من ثقل تلك التي ضج بها العراق الجديد وتلك التي كادت أن تخرج الشياطين من جحورها في لبنان قبل بضعة أشهر، ولا زيارات ذات أوزان ثقيلة، ولا اجتماعات رئيسية ذات شأن، ولا تكتلات ومحاور من جنس تلك التي اعتاد المشهد العربي على إخراجها بين الحين والآخر.


هي حالة لا يمكن بطبيعة الحال وصفها ‘بالستاتيكية’، حيث لم يخلُ المشهد من انفجار هنا (الهجوم على مجمع السفارة الأمريكية في صنعاء في السابع عشر من سبتمبر الجاري، وتفجيرات القاعدة في الجزائر، والتفجير الانتحاري الأخير في دمشق) وأعمال عنف هناك (مسلسل القتل اليومي في العراق واختطاف وقتل اثني عشر جندياً موريتانياً كما النعاج)، وبعض مشاكسات الـ ‘بلوجرز’ على ‘الانترنت’ التي لا تتجاوز حدود الأحداث الفردية المتفرقة عديمة المفعول والتأثير.


ولكن بصفة عامة فإن الساحات العربية ظلت على ما هو ظاهر بمنأى عن الأحداث الدرامية المعتادة، اللهم المسلسلات الدرامية الرمضانية التي اكتظت بها شاشات الفضائيات العربية.


ولا يجب أن نُرجع ذلك إلى الشهر الفضيل الذي يميل فيه إيقاع الحياة العربية إلى الاسترخاء وانقطاع الناس إلى عباداتهم وطقوسهم الحياتية الخاصة. فهذه الحالة كانت قائمة قبل بداية شهر رمضان، حيث كانت الساحة العربية خلوًا من أي حدث لافت أو مثير، وإن تخللتها بعض المناكفات والهمز واللمز كان طرفها بعض الحكومات ‘المتخاصمة’ ولكن من دون أن يؤدي ذلك إلى تصعيد ذي شأن.


ونحسب انه ليس هنالك من تفسير محدد لهذا السكون النسبي (الظاهر) سوى أنه يقع ضمن تعليلات وتأويلات قوانين التطور والدورة الحياتية، وبضمنها الدورة السياسية التي ينطبق عليها افتراضاً ما ينطبق على الدورة الاقتصادية من محطات انتعاش وركود وكساد، ارتباطاً بتوفر عوامل وشروط حركتها الذاتية والموضوعية.


وقد يذهب علم الاجتماع السياسي إلى تعليل هذه الحالة بنسبتها إلى حال الإحباط والملل التي تملكت الجميع جراء الإخفاقات المتوالية في إحراز أي منجز حقيقي مهما كان ضئيلاً، رغم الجهد المبذول هنا وهناك لتحقيق تقدم ملموس، سواء على الأصعدة الوطنية أو الصعيد القومي العربي.
والحال أن مثل هذا التعليل هو نفسه بحاجة إلى تسبيب اعتباراً بأن القنوط والإحباط لا يأتيان حكماً، من فراغ، فهما ليسا سوى إفرازين موضوعيين لخلل ما يعتور النظام المؤسسي الذي يدير عملية إعادة إنتاج الحياة اليومية للسكان.


ومن ثم فإننا نميل إلى ترجيح فرضية أن عملية الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في العالم العربي لا تتوفر على آليات تسيير داخلية تكفل لها السيرورة الانتظامية الذاتية غير الخاضعة للمؤثرات ‘الخارجية’، وهو ما يفسر عدم ديناميتها ونقص فاعليتها.


وهو نقص نعزوه، زعماً، إلى نقص بيِّن في توفر آلية التنظيم والإدارة المجتمعية الكلية، وهي هنا الديمقراطية باعتبارها مصلاً (إن جاز التعبير مجازاً) مختبراً ومجرباً لمعالجة العزوف والاعتكاف الفعلي ( من فِعل) عن التعاطي والتدافع المجتمعي الإيجابي، وتعبئة كافة القوى والموارد في عملية التنمية الشاملة.


إذ اتضح أنه حتى هامش الحركة الضيق الذي أتيح للديمقراطية العربية التحرك في إطاره لكي يعبر المجتمع عن آلامه وآماله وطموحاته – حتى هذا الهامش كثيراً ما يتعرض للتعديات وأعمال الزجر والتقييد، والمصادرة أحياناً، بصورة تعكس عدم اطمئنان المؤسسة العربية، ‘لشيطان’ الديمقراطية!


مؤسسة النظام الرسمي العربي، إذ تتعاطى مع هذه الأولية الإدارية الكلية الحداثية بذلكم الحذر والريبة والتشكك فتضيِّق على متنفساتها الشحيحة، فإنها تعتقد إنما تحقق بذلك الهدوء والاستقرار السرمدي الذي تنشده وترومه، مراهنة في ذلك على ‘مبادراتها’ الاحتوائية وعلى أذرع جهازها التسييري، السياسية والاقتصادية والإعلامية.


وهذه مقاربة خاطئة بالتأكيد نظراً لما يترتب عليها من تأسيس لحالة خطيرة ملؤها السخط المكبوت غير المعبر عنه بوضوح وعلانية، فيتراكم وتتركز وتتفاعل جزئياته فتضحى بؤرة نوعية عرضة للاستغلال والاستثمار من القوى الناقمة والأخرى المتربصة والمتوثبة للصعود إلى ‘المنصة’.


وغني عن القول إن مثل هذه التداعيات للحالات المكبوتة عادة ما تجلب النوازل والكوارث على المجتمعات المبتلية بها والعياذ بالله.
لذلك لابد من أخذها على محمل الجد ومعالجة ذيولها قبل استفحالها وتنفيس احتقاناتها قبل انفجارها.
 
من صحيفة الوطن