المنشور

المسلسلات والصراعات

عبرت المسلسلاتُ المعروضة في شهر رمضان عن طبيعة الحياة العربية التقليدية المحدودة، وسيطرة القوى الشمولية المتخلفة على عقولها، حيث تعجز العقول الإبداعية العربية بضخامتها واتساعها عن خلق شيء مشترك سوى المسلسلات التي تتحد فيها، وتحدق عيون الملايين فيها، غير قادرةٍ على خلق شيء إبداعي آخر ذي قيمة، وعند العرب نتاج قصصي وروائي هائل. في البداية لابد أن نرى تلك القسمة بين الإنتاج المصري والإنتاج السوري اللذين تقاسما صنع هذه المسلسلات، بتفوق واضح للمسلسلات السورية في العدد ولكنها كانت ضعيفة في الرؤى الفكرية. ومهما كانت أفكار هذه المسلسلات للدولتين المتسيدتين على عرش الإنتاج، إلا أنهما كانتا متفوقتين في الإبداع الأدائي وكثرة الموهوبين من الفنانين في مختلف جوانب الإنتاج التلفزيوني هذا.
كانت المساحة المصرية للديمقراطية الأوسع تتيح عرض صراعات اجتماعية واسعة من دون خوف من الرقيب، ولهذا توجهت لقضايا سياسية واجتماعية ساخنة، فمسلسلات مثل (ناصر) و(الدالي) و(شرف فتح الباب)، و(في أيدٍ أمينة)، و(بعد الفراق) وغيرها، عرضت قضايا مفصلية في الحياة السياسية والاجتماعية العربية، فمسلسل الدالي بجزئه الثاني واصل الحفر في العائلة الرأسمالية الكبيرة، عائلة الدالي، وما تواجهه من هجوم أجنبي غربي لابتلاع مؤسساتها، ومن صراعات داخلية عائلية مختلفة وكثيرة، ويلعب الأب سعد الدالي الذي جسده الفنان الكبير نور الشريف، دور القيادة القوية في حسم هذه الصراعات لصالح العائلة والوطن. ويتمكن بذكائه وشجاعته وقوة شركاته من ضرب الخصوم الكثيرين الذين هاجموا أو حتى توغلوا داخل نسيج هذه العائلة. ولكنه يتجاوز القانون أحياناً ويصارع ورثة صديقه الراحل ثم يسلم بأمر القضاء، ولكنه يرتكب بعض الجرائم تجاه الشخص الذي تقدم للزواج من أرملة ابنه ويعرضه لتعذيب غير إنساني، ويعترف بأنه كان وحشاً. ومع هذا كله يقاوم من خلال شركاته بشكل وطني. يطرح المسلسلُ أسئلة عديدة حول رؤية الفنان نور الشريف الذي تجاوز هنا التعبير عن “الغلابة” والفقراء كما عُرف عنه ليطرح قضايا الرأسمالية الوطنية وليعرض الارستقراطية وعالم النخبة المرفهة، ولكن ذلك تم بشكل موضوعي، فلم يجعل نفسه وطبقته كاملة نقيتين، بل عرض إنجازاتهما وأخطاءهما وصراعاتهما والأهم من ذلك دورهما في بناء الإنتاج صناعة وثقافة. كذلك كان العرض الفني مبهرا، معتمدا على التشويق المتصاعد، وعرض شبكة واسعة من الشخصيات والأحداث في مواقعها، الملونة، المتعددة الأمكنة سواءً في مصر أم أوروبا، ويتجسدُ الأداءُ بشكلٍ متقن موجز كاشفاً تحولات الشخصيات نفسيا واجتماعيا. وكان مسلسل(شرف فتح الباب) الذي قام ببطولته الممثل الكبير يحيى الفخراني، هو الآخر يتسمُ بدراميةٍ عالية، ويدورُ حول قصةِ موظفٍ تقوم شركتهُ العامة بطردهِ معطية إياه بدلا ماليا هزيلا، في حين كان يصرفُ على عائلةٍ مكونة من خمسة أفراد، فيجدُ أن السرقةَ من هذه الشركة الحكومية التي سرقتهُ هي أفضل حلٍ لتحقيق العدالة. ويتمكن بالتعاون مع رئيسه في العمل من اختلاس مليونين من الجنيهات هي حصته من العملية ويقوم بوضعها في برميل المياه فوق سطح العمارة، بمساعدة أحد الشغيلة الذي يشك في هذا التخزين الغريب، ثم يكتشف السر مع تقديم شرف فتح الباب للمحاكمة. وبدا كأن المسلسل قد وصل إلى طريق مسدود بوضع شرف الباب في السجن، ولكن المؤلفَ يخرجهُ بريئاً بعد ضبط رئيسه في عملية فساد كبرى، ليقوم شرف الباب بإظهار النقود بشكل سري من الخزان المائي، ولكن عائلته التي اعتبرته مثال الأمانة والشرف تشم رائحة فساد داخلية خطرة، فتتصاعد مقاومتها حتى تحرق النقود وليودع شرف الباب مرة أخرى في السجن ويظهر ثانية وقد صار متسولاً مجنوناً. والمسلسل يقوم بفبركة ميلودرامية ليظهر أخلاقية العائلة في حين إن الواقع أقسى من ذلك. لكن المسلسل ذا الطابع الديني عكس خوف الناس من انتشار الفساد المالي ومن سوء القطاعات العامة وإداراتها ومن معاناة الفقراء الذين لا تتغير معيشتهم سوى باللحاق بركب الفساد. في حين كان المسلسلان الآخران(في أيدٍ أمنية) و(بعد الفراق) أقل من السابقين كثيراً، ولم يطرحا القضايا الاجتماعية بعمق. أما المسلسلات السورية فهي تعجز عن نقد الواقع السوري وما يجري فيه من فساد، فتلجأ إلى الهروب نحو التاريخ، فكانت أغلب المسلسلات السورية تاريخية، كمسلسل (ابوجعفر المنصور) و(المرابطون والأندلس) و(عنترة) وغيرها أما المسلسلات المعاصرة فيغلب عليها الطابع الرومانسي الأدبي كمسلسل(رائحة المطر) الذي توجه لعرض أدبي جمالي للأحداث والشخصيات بطريقة بطيئة ليست فيها علاقات وطيدة قوية بالحياة وصراعاتها، في حين كان مسلسل(فسحة سماوية) أكثر ارتباطاً بالحياة من خلال عرض نماذج شعبية تسكن في فندق صغير مشترك، العديد منه يقاوم الرشوة في جهاز الدولة من دون أن يفلح في صنع شيء، لكنهم يعيشون حيواتهم الصعبة المتنوعة ويناضلون بما يستطيعون عليه. المسلسل يتشكل بطريقة درامية متوترة متصاعدة بعكس الجمود في مسلسل (رائحة المطر) المكون من قصص قصيرة منفصلة. وكمثال على المسلسلات السورية التاريخية فإن مسلسل (أبوجعفر المنصور) هو قمة هذه المسلسلات، فهو ضخم، حيث ان الإنتاج قطري، وتشترك فيه مجموعات كبيرة من الممثلين، ويسجل جملة حروب وصراعات سياسية في نهاية الدولة الأموية وظهور الدولة العباسية. ويتوجه المسلسل للتسجيل المطول لأحداث تمتد من زمن عمر بن عبدالعزيز مروراً بهشام بن عبدالملك وغيرهما من خلفاء بني أمية، حتى يستقر عند مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة، ويتابع نشأة ابي جعفر المنصور منذ أن كان فتى حتى شب وصار رجلاً، ويعرض الأحداث في فارس وصراعات أبي مسلم الخراساني ونصر بن سيار وغيرهما من قادة إقليم خراسان وغير هذا كثير من الصراعات الجانبية والقصص العرضية، فكأن المؤلف – المخرج يقدمان كتابا مدرسيا عن الفترة المذكورة بكل صغائرها، لا أن يقدما مسلسلا فنيا يعرضُ بشكلٍ عميق لشخصية المنصور المركبة، وتناقضاته الكثيرة، من بخله الشديد وعنفه وشدته على أئمة العصر، وترفيعه للتافهين والقادة الباطشين وتنكرهِ للقائد المضحي في سبيل الدولة أبي مسلم الخراساني، إلى حدة ذكائه السياسي، وبنائه الدقيق للدولة. لقد أخذ أبوجعفر المنصور بضع حلقات أيام نضجه في حين كانت أغلب الحلقات تدور عن غيره، ويعبر ذلك عن عدم وجود تحليل عميق لتاريخ نشوء الدولة العباسية ولشخصية المنصور المهمة في هذا المسلسل الضخم. أما مسلسل(ناصر) الذي عُرض في قناة مصرية وحيدة فهو يصور حياة الرئيس جمال عبدالناصر وقيادته للثورة، وهو مسلسلٌ ضخم مشوق ودرامي حقيقي ومن دون تزويق سياسي، يعتمد على التسجيل عائليا وسياسيا، ويفتقد معالجة جديدة لقضية تلك الفترة، ورغم أهمية المسلسل فإن المحطات الفضائية العربية تآمرت على منعه.
 
صحيفة اخبار الخليج
8 اكتوبر 2008