المنشور

الصراع الاجتماعي والمذهبية في سوريا (5 – 5)

وجدت القوى السياسية السورية المعارضة الموجودة خارج السلطة ان مواقفها تتقارب لزحزحة حزب البعث عن احتكار السلطة المكرسة منذ سنة .1963 وليس شيئاً غريباً أن يتصدر ذلك حزب الاخوان المسلمين السوريين، فطابع النظام الذي اتجه لاستخدام المذهبية السياسية ووسع التحالف العلوي – الشيعي، وغذى الأدبيات والتجمعات العبادية المذهبية وتكرس ذلك بربط نفسه بقوى سياسية واسعة من إيران مروراً بالعراق حتى لبنان، فأثار النسيج الطائفي الذي كان يتمزق خلال هذه العقود في المجتمع السوري. وللمجتمع السوري تقاليد قوية متجذرة في هيمنة (المذهب) السني عبر القرون، فالطوائفُ الأخرى تسكنُ المناطقَ الجبلية وبعض الأرياف في حين تسودُ المدنَ والبراري الطائفة السنية. وقد عمل الانتدابُ الفرنسي على تكريس الأقليات المذهبية في الجيش خاصة، وتنامى هذا مع حكم البعث، فأدت الأزمةُ الاقتصاديةُ إلى استرجاع صراع الطوائف القديم، ولكن في ظروف سياسية وعسكرية معاكسة للأغلبية المذهبية. فغدا المذهب السني أداةً كبيرة لزحزحة الشمولية.
فقامت الحكوماتُ البعثية المتساقطة بتكريس الصراع المذهبي للحيلولة دون الاستحقاقات الديمقراطية المنتظرة، وقامت بحصر الاخوان وعزلهم، كقوة سياسية معبرة عن جسم مهم من الأغلبية، مثيرةً المخاوف منها. لكن جماعة الاخوان كانت لديها تقلبات خطرة هي الأخرى فقد تحالفت مع النظام العراقي في عهد صدام، ووظفها ذلك النظامُ في الصراع مع سوريا، كما يقول الباحث المصري وحيد عبدالمجيد في مقالته «الإسلام السياسي بين مصر وسوريا« في الأهرام، وبالتالي يغدو توجهها نحو الديمقراطية محفوفاً بأسئلةٍ كثيرة، كذلك هناك جماعات متقاربة معها تكرس الصراعات المذهبية. إضافة إلى أن قوى المعارضة البعثية والقومية والشيوعية كبيرة في سوريا، وإن كانت روابطها العلنية محدودة مع الجمهور في حين يتحرك الاخوان في مؤسسات العبادة، ولهذا لم تستطع القوى التحديثية أن تمنع توسع الصراع المذهبي. وهكذا تشكل الصراعُ السني – العلوي في سوريا بعد قرن من القومية والعلمانية. إن عملية تجمع المعارضة احتاجت إلى بضع سنوات لكي تتشكل، فصاغت جماعةُ الاخوان ميثاق الشرف ودعت إلى مؤتمر في لندن، الذي انعقد في أغسطس 2002، وحضرته معظم قوى المعارضة، وتم اعتماد ميثاق الشرف الوطني، الذي يعمل لإنهاء حكم الحزب الواحد وقيام نظام التعددية الحزبية في سوريا. ويتصور الباحثُ عبدالمجيد في مقالته السابقة الذكر أن الاخوان في سوريا مختلفون عن الاخوان في مصر، «تعلم اخوانُ سوريا، بخلافِ نظرائهم في مصر، إعمال العقل سعياً للتجديد استجابة للتحديات التي تواجههم، وكان أبرز مثال على ذلك الاجتهاد المميز الذي قدمه المراقبُ العامُ للإخوان في سوريا مصطفى السباعي في مسألةِ النظامِ الاقتصادي – الاجتماعي في الخمسينيات إذ طرح رؤية اجتماعية تنحو نحو اليسار«، ويضيف الأستاذ عبدالمجيد «وكان هذا واضحاً في كتاب السباعي عن الاشتراكية في الإسلام«، (الأهرام: 29/10/2007). لقد قلنا كيف ان الاخوان السوريين وقفوا مع الإقطاع، ورفضوا قانون عبدالناصر المحدود، وإضافةً إلى هذا ولحد الآن لم يعترف الاخوان السوريون بالعلمانية كشكل لنظام الحكم، ومن دون التداخل الوثيق بين العلمانية والديمقراطية والوطنية، فإن الوعي السياسي يظلُ مذهبيا ويكرسُ التمزقَ الوطني، وتحطيم مكونات الدولة، أي يتم بقاء التنظيم في دائرة الإقطاع الديني، ولم يتحول إلى فصيل برجوازي ديمقراطي كما يُفترض أن يكون، وإذا تحول إلى ذلك فإن تسميته كتنظيم مذهبي تـُلغى، ولا يصبح تجمعاً للمسلمين من طائفةٍ واحدة، فيحددُ توجهَهُ الاجتماعي بوضوح بدلاً من التمثيل الفضفاض للشعب والأمة الإسلامية كلها. وهو إذ لم يفعل ذلك فهو يريدُ الاستفادةَ من الصراع المذهبي المتفاقم لمصلحة سيطرته السياسية، وحين تحدث السيطرة السياسية تتبدل المواقف، ويكون للسلطة مذاقها الحلو المختلف عن المنافي والسجون. وهذه الضبابية التي تحدث للفصائل السياسية حتى الوطنية والتقدمية منها بسبب عدم تجذرها في النضال الشعبي، وعدم معرفتها بالأنظمة التاريخية، فالمرحلة الحالية المتحولة من بُنية الإقطاع إلى الرأسمالية لها قوانين، بظهور برجوازية خاصة صناعية، وطبقة عاملة صناعية، تعيدان تشكيل المجتمع التقليدي عبر تطور الصناعة، بتحرير الفوائض من البذخ وتحرير القوى المغيبة عن التصنيع كالفلاحين والنساء، وتحرير العقل عن الخرافات، وتحرير الدين من سيطرة الإقطاع. ويمر المجتمعُ السوري بمرحلة متوترة في خروجه الحثيث من النظام التقليدي فقد ظهرت برجوازيتان مسيطرتان على الفوائض الاقتصادية، عامة وخاصة، ولهما نسيج مشترك متداخل، والتصنيع في مرحلة مهمة وشائكة، ومن دون دولة وطنية وأحزاب وطنية ديمقراطية فإن الكثير من المكاسب قد يضيع في أتون صراع بلا فائدة. وكما يبدو من احتمالات التطور في مجتمعات رأسماليات الدولة الشرقية كروسيا وإيران فإن مركز القرار سيكون في يد الدولة وجيشها وهي التي تصنع القيادات المحركة للتطور باتجاه مصالحها ومصالح تطور اقتصادها، وهي تقوم بتحسين ذلك على الدوام مصطدمة بعقبات التطور الموضوعية كالمركزية الشديدة وضعف الإنتاج والتمويل وهي تقوم بتغييرات جزئية في هذا الشأن، ولهذا ستكون الدولة هي اللاعب الرئيسي باستمرار، في حالة أحزاب طائفية أو علمانية محدودة التأثير، لأن الناس تخشى من القوى المذهبية السياسية وهي التي لا تتحد من أجلها وتريد قوة وطنية ديمقراطية موحدة للشعب، ووقتذاك يكون التغيير، أما الآن وفي خضم الكيانات المذهبية والعلمانية النخبوية فإن التغيير ينبع من الحكومة، وإذا ارتفعت الجماعات المذهبية إلى أفق العلمانية والديمقراطية والوطنية والعقلانية فإن مناخا فكريا جديدا سوف يتشكل عند الناس، ويؤدي إلى تغيير سياسي، لأن العلوي لا يخشى السني بل يتحد معه من أجل مصالحهما الواحدة، وهذا يحتاج إلى وقت، وقوى طليعية تخلق هذه الثقافة المشتركة، في زمن تعملُ فيه القوى المستفيدة من التمزقات من أجل استمرار الفرقة والتطاحن. إن الشعب يخشى المغامرة ولا يراهن على قوى مذهبية، ويجد ان حياته في ظل البعث رغم فساده أفضل من نظام لا يعرف ماذا سوف يكون وأي احتمالات رهيبة قد يجر الناس إليها، ولهذا فعلى المناضلين من أجل الديمقراطية أن يبدأوا بأنفسهم.
 
صحيفة اخبار الخليج
7 اكتوبر 2008