المنشور

الصراع الاجتماعي والمذهبية في سوريا (3)

واجهت الإدارةُ الجديدة بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد إمكانيتين للتطور، تتمثلُ الأولى في التوجه نحو إصلاح حقيقي واختيار طريق الانتخابات والتعددية الحقيقية، أو الاستمرار في النهج القديم، وقد حدثت خطواتٌ في الخيار الأول لكنه لم يستمرْ طويلاً، فيما عُرف بـ (ربيع دمشق)، فكان الخريف أقوى وعمت الاعتقالات وأُبقيت الجبهةُ الوطنية كديكور وذيل للسلطة، مما فرّغ تاريخاً طويلاً لهذه القوى المعارضة سابقاً من مضمونه ودوره في كشف الواقع ونشر ثقافة وطنية توقف هذا الانزلاق نحو التفتت الطائفي السريع، لتعارضِ هذا مع الملكيةِ العامة.
وكان أن استجابت الإدارةُ السورية الجديدة لكل شروط البنك الدولي في تغيير ملامح سوريا الاقتصادية، حيث الملكية العامة “وليدة” التضحيات وجهود العمال والقوى الشعبية على مدى أربعة عقود، وباعتها للرأسماليين. يقول أحدُ الباحثين السوريين: “ومن أهم سمات التحول هو انجاز السلطة لما يمكن أن نسميه “خصخصة” الطبقة المالكة السورية، ولاسيما الشق الأساسي منها وهو القسم البيروقراطي الذي راكم ثرواته من خلال النهب والفساد بفضل احتكاره للسلطة، وكان أقواها بفضل اضعافه للبرجوازية الخاصة، منذ تسلم البعث للسلطة عام 1963 ولغاية 1991، حيث بدأت بشكل خجول عملية تعزيز مواقع هذه البرجوازية الخاصة، من جديد من خلال قانون الاستثمار رقم 10، مما سمح له بضخ أمواله واستثمارها مجدداً في قطاعات التصنيع أو الخدمات أو التجارة”، (غياث نعيسة، بعض ملامح الصراع الطبقي في سوريا). هذا التحول وبيع الأملاك العامة وتأجير أجزاء من الموانئ ورفع الدعم عن الوقود وبعض المواد الغذائية وما ترتب على ذلك من غلاء وتدني الأجور وارتفاع التضخم، صعّد من ردود فعل العمال ولكن على نحو اقتصادي جزئي ومحدود فقد فقدت الطبقةُ العاملةُ أحزابَها المعبرة عنها، وكانت أدواتُ الوعي التقدمية مشلولةً لارتباطها بأجهزة الدولة ونتاجات مفاهيمها، في حين كان بعضُ المعارضة الليبرالية يتصاعد بشكل خائف ومُفتت ويعمل في ذات المفاهيم الطائفية. ففاتورة “الإصلاح” الاقتصادي وقعت على عاتق الجمهور الشعبي الذي رفع الملكية العامة بجهوده، وعليه الآن أن يدفع ثمن عملية الخصخصة كذلك، أي أن تخرج أملاك الموظفين من عتمة الدولة إلى النور الاقتصادي (الحر) من دون عقاب قانوني. رأت الوزاراتُ السوريةُ المتعاقبة والعديدة منذ التسعينيات في حملاتها المستمرة على الفساد الجوانب الشخصية الجزئية لهذه الظاهرة المركبة، فتركزت كعمليات تطهير وإبعاد كما توجهت الجهود نحو حلحلة هذه الملكية العامة من القيود البيروقراطية الكثيرة. جاء في تعليقٍ لصحيفة الحياة سنة 2000 حول عمليات التغيير الكثيرة التي تجرى في أجهزة السلطة. “اليوم في سوريا فساد لأن الدولة اعترفت بوجوده، فكيف يستأصلُ هذا الداء الوبيل؟ لقد جاءت حكومة عبدالرحمن خليفاوي عام 1971 فلم تستطع”، وتعدد الصحيفة الحكومات السورية في تلك الفترة مثل حكومة محمود الأيوبي ومحمد علي الحلبي وعبدالرؤوف الكسم ومحمود الزعبي، التي استمرت وسقطت كلها بشكل مدوٍ متوالٍ حتى نهاية القرن العشرين، من دون فائدة في حل مشكلة الفساد العميقة، ووصلت التجاوزات إلى مليارات الدولارات حتى أُقصي ضمن من أقصي رئيس المخابرات العامة الذي غُرم مليارا من الليرات. وكان التقييم الحكومي لمشكلات القطاع العام إجرائيا فنيا، مثلما رأتْ ذلك صحيفةُ تشرين الحكومية في تقييمها التنظيري لمشكلات سوريا الاقتصادية، وذلك في عددها يوم 25/12 سنة 1999 فرأت أن ضعف القطاع العام يعودُ إلى نقص سيولة الشركات العامة والخاصة وضعف أدائها وضآلة الصادرات وتراجع معدل النمو الاقتصادي، في حين رجح أحد الباحثين جذور ذلك في الاعتماد على المساعدات الخارجية، ووجود نظام الحماية العالية للصناعة، وغياب القطاع المصرفي المتطور (انتهى الاستشهاد). والسببان الأخيران مهمان لكونهما يعكسان أزمة تقنية وبيروقراطية القطاع العام. لكن ذلك يعود إلى غياب الديمقراطية في البلد، وعدم وجود منافسة للقطاع العام داخلية وخارجية، فهذه تجعله غير قادر على إنتاج سلع متقدمة، فتتكسد ويزداد تدهور قوى الإنتاج. يذكر أحد الباحثين الاقتصاديين الحكوميين ان ازدهار سوريا الاقتصادي في بعض السنوات نتاج المساعدات من دول الشرق ودول الخليج: “ويُعزى هذا النمو إلى معدلات استثمار عالية بلغت حوالي 25% إلى 30% من الدخل القومي، قام بمعظمها القطاعُ العام، مدعوماً بمساعدات سخية من دول الخليج العربي وبعضها من دول المعسكر الشرقي”، (الاصلاح الاقتصادي في سوريا، نبيل سكر). كان هذا النهج البراجماتي صالحاً في السياسة والاقتصاد، على المستويين الإقليمي والوطني، لفترةٍ قبل أن تستفحل مشكلات القطاع العام، وتتوجه الطبقة الحاكمة نحو حل بيعه للكبار الذين ظهروا عبر هذه الرأسمالية (السوداء).
 
صحيفة اخبار الخليج
5 اكتوبر 2008