المنشور

مدركات الفساد‮…!!‬


في فئة من 180 دولة منها 18دولة عربية وضعت منظمة الشفافية الدولية مملكة البحرين في المرتبة 43 عالمياً والرابعة إقليميا بعد قطر ودولة الإمارات وسلطنة عُمان في مؤشر مدركات الفساد لعام 2008.
ما هو مهم في مؤشر هذا العام أن البحرين تقدمت تقدماً طفيفاً مقارنة مع مؤشر عام 2007 حيث كان ترتيب البحرين في ذلك العام 46 عالمياً، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا التقدم يشكل خطوة ايجابية من دون ريب.
وما هو مهم ثانياً في هذا المؤشر انه يقيّم ويرتب الدول طبقاً لدرجة وجود الفساد بين المسئولين والسياسيين في هذه الدول، وهو مؤشر مركب يعتمد على بيانات ذات صلة بالفساد تمّ جمعها عن طريق استقصاءات متخصصة قامت بها  ١١ مؤسسة مختلفة ومستقلة وحسنة السمعة بالإضافة إلى رأي أصحاب الأعمال ومحللين واقتصاديين محليين ومن دول أخرى.
وما هو مهم ثالثاً أن الاستقصاءات التي أجريت شملت محاور عدة أبرزها مدى قدرة الحكومة على معاقبة المخالفين، وسوء استغلال المسؤول الحكومي للسلطة لتحقيق منافع أو مصالح خاصة، واحتمالية ضلوع المسئولين بالفساد بدءًا من الرشاوى الصغيرة للبيروقراطيين إلى الرشاوى الكبيرة للسياسيين، والفساد وتضارب المصالح، وإساءة استخدام الموارد العامة للمصالح الخاصة، والفساد من رشوة وزراء في الحكومات إلى حوافز أو إغراءات تدفع فيما يخص الصادرات والواردات، والخدمات العامة، والتعاقدات الحكومية، والأحكام القضائية، ومدى عجز الحكومات وجديتها في محاصرة الفساد إلى جانب ما يخص تطبيق القانون وفرض سيادته وحاكميته.  وما إذا كان يطبق على الجميع من دون استثناء أم لا.  بالإضافة إلى ما يتعلق باستثمار النفوذ، واستثمار المعلومات للتطاول على المال العام.
ذلك يعني بشكل عام أن منظمة الشفافية الدولية تثير من خلال مؤشر مدركات الفساد قضايا جوهرية لا يمكن تجاهل أهميتها بالنسبة لنا ولغيرنا من الدول حول موضوع الفساد الذي اعتبرته المنظمة كارثة إنسانية فتاكة لا يجوز السماح بها أو غض النظر عنها.
يعني ذلك بشكل خاص بالنسبة للبحرين أنه رغم التقدم الطفيف الذي أحرزته في مؤشر هذا العام والذي يعزي بشكل أساسي إلى التحسن المحرز على صعيد شفافية المناقصات الحكومية في خطوة ايجابية من دون شك إلا أن الضرورة والمصلحة يقتضيان أن يتحمل المعنيون مسؤولياتهم بمنتهى الجدية للبدء وعلى عجل بالأمر وبالإكراه أحياناً في مواجهة الفساد وتبني منهج يعزز جهود المواجهة من بين أهم مبادئه إرساء ثقافة تعني بالمساءلة والمحاسبة في الدولة والمجتمع. ولعل الإستراتيجية الوطنية السداسية للمملكة (2009 – 2014) التي أعدها مجلس التنمية الاقتصادية والحكومة والتي كشف النقاب قبل أيام عن ملامحها والتي وضعت تعزيز جهود الحكومة لمكافحة الفساد على مدى السنوات القادمة كأولوية، مقروناً بمشروع إنشاء فريق خاص متنقل ومتفرغ في ديوان الرقابة المالية للنظر في دعاوى الفساد والمحاباة لضمان إعطاء هذه المهمة الأولوية المطلقة، وبالإشارة بأن الفريق كما جاء في الإستراتيجية سوف يشكل الوجه الرسمي لمكافحة الفساد في البحرين، ونقطة الاتصال الأولى للإبلاغ عن الحالات وتقديم الشكاوى للتحقيق فيها، وان هذا الفريق سوف يتأكد في دلالة لافتة من ملاحقة أي شخص يرتكب مخالفة فساد مهما كان مستوى ذلك الشخص ومنصبه، مع العمل على تعزيز الشفافية والمساءلة في تقديم الخدمات الحكومية، وإشراك الجمهور بالتدابير المتخذة لمكافحة الفساد. لعل ذلك هو البداية السليمة المطلوبة التي انتظرناها من زمن طويل، ولكن تبقى العبرة في التطبيق والنتيجة.
صحيح أن مكافحة الفساد غدت قضية عصية وشديدة التعقيد، خاصة بعد أن بلغ الفساد حالاً لم يعد فيه الفاسد مداناً في أوساط المجتمع، بل بات بعضهم لا يطالهم نقد او إدانة حتى لا نقول محاسبة، وهي الحالة التي وصفها د. سليم الحص رئيس المنظمة العربية لمكافحة الفساد حينما قال بأنه لن تقوم لأمة قائمة مادام المذنب فيها لا يحاسب على ذنبه، والمجرم لا يعاقب على جرمه، فكيف يتسلق فيه المرتكب فوق كل ارتكاباته، لا بل فوق جثث ضحاياه إلى أعلى المراكز وابرز المواقع.
والصحيح أيضاً أننا نحتاج إلى مزيد من الجهود الحقيقية في مجال محاربة الفساد بما ينعكس بالنهاية على رأي المواطن وصاحب العمل والمستثمر الخارجي والمحلل الاقتصادي وكل من تستطلع رأيه منظمة الشفافية الدولية سواء في مؤشرها حول مدركات الفساد أو في تقريرها العالمي الشامل عن الفساد، أو في مؤشرها السنوي حول الرشوة.
ذلك الهدف يقتضي أن لا يقتصر الجانب المضيء فيما يخص الشفافية على المناقصات الحكومية، بل ويجب أن تكون الشفافية في كل مجالات ومواقع وقطاعات العمل العام، فشفافية أعمال أي دولة أصبحت اليوم ركيزة من ركائز الدولة الحديثة، فحينما تخضع الدولة كل مؤسساتها وأجهزتها وأنشطتها تحت سمع ونظر جميع من يعنيهم بشؤونها فهي تترجم إيمانها بأنه لم يعد هناك شيء من شؤون الشأن العام والمال العام يدار في الخفاء أو يقع في دائرة الشك والريبة.
أيضا يقتضي تحقيق المزيد من التقدم في مؤشر مدركات الفساد متطلبات عديدة من بينها المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد التي وقعت عليها البحرين في فبراير 2005، والى جانب ذلك انجاز عدد من مشاريع القوانين ومنها قانون مكافحة الفساد، وقوانين تتصل بحق الاطلاع على المعلومات، وتعارض المصالح وكشف الذمة المالية وحماية المبلغين عن قضايا الفساد وتسريع تعزيز الإصلاحات وإنشاء ديوان للرقابة الإدارية وتعزيز صلاحيات ديوان الرقابة المالية وتفعيل الدور الرقابي الحقيقي والمسؤول للمجلس النيابي، وتلك التي تعيق تقدم جهد حقيقي ملموس في مجال محاربة الفساد من قبل المجتمع المدني وقواه الفاعلة.
ذلك ممكن وضروري ومطلوب وصعب، لكنه ممكن، ولكي يصبح ممكناً علينا أن ننطلق من اقتناع بأن واقعنا الراهن ينبغي ان يتعامل مع  الفساد كونه من اخطر واكبر التحديات التي تواجهنا، وتواجه المصلحة الوطنية وتمس حقوق المواطن الأساسية.
 ثم وحتى يكون ممكناً علينا أن نؤمن بضرورة هذا الممكن، وندرك متطلباته، وان نلتزم التزاماً صادقاً بموجباته، وان نعي بأنه لم يعد بمقدورنا أن نغمض أعيننا عن الفاسد، أو أن نراهن على إمكانية تأجيل وترحيل إرادة مواجهة الفساد. وهذه مهمة جوهرية ينبغي أن تسبق كل المهام الأخرى لأنها تمس الحياة المعيشية للناس وتضرب طموحاتهم المشروعة في الصميم.
 
الأيام 3 أكتوبر 2008