المنشور

وضـع توليفــي‮!‬


حسب إحصائية لليونسكو تعود إلى سنوات قليلة خلت، فان نسبة من يستفيدون من الاحتمالات الكاملة لشبكة الانترنت على المستوى العالمي لا تزيد عن ٢٪.  إن بدت لكم هذه النسبة لأول وهلة متواضعة جدا، فتريثوا في قراءة العبارة أعلاه التي تتحدث عن الاستفادة الكاملة من خدمات هذه الشبكة، وليس الاستفادة الجزئية، وهي استفادة متفاوتة النسب والمستويات تبعا لتفاوت مهارات من يتعاطون مع التقنيات اللازمة في عالمي الكمبيوتر والانترنت.


حتى مع تزايد مقاهي الانترنت وانخفاض أثمان أجهزة الكمبيوتر وتراجع نسبة الأمية، وكذلك تطور وانتشار الخدمات التي توفرها البنية التحتية الحديثة، فان عدد من لا يستفيدون من كل ذلك ما زال كبيرا جدا. وهناك فقط بضعة بلدان متقدمة في كل قارة هي التي تملك القدرة للإفادة الكاملة من ذلك، فيما تعاني بقية بلدان العالم من تلك اللعبة القديمة للحاق بالعالم المتقدم في ثورة المعلومات والاتصالات، كما كان عليه الحال بالنسبة للعالم المتقدم في الصناعة.

 
للأمر جانب آخر، فلدى الناس أمور كثيرة أخرى في حياتهم أفضل من مجرد الجلوس أمام شاشات الكمبيوتر، فرغم وجود مُدمنين كثر على ذلك، فان عدداً كبيراً من الناس يكتفون باستخدام التكنولوجيا الجديدة وسيلة لتوفير جهد العمل أو كمصدرٍ للترفيه، وحتى الآن فان شعبية ألعاب الكمبيوتر وتحميل المواد من على الانترنت لم تؤد إلا إلى هبوط هامشي في مشاهدة التلفزيون، كما أن مبيعات الكتب لم تتأثر بصورة ملموسة، وما زالت دور السينما والمسرح والحفلات الموسيقية تستقطب أعدادا كبيرة من المشاهدين. ورغم أن كثيراً من الكتب موجودة على الشبكة العنكوبتية كما تسمى، لكن صعوبات تقنية مثل مستوى وضوح الرؤية في شاشة الكمبيوتر وبطء تحميل البرامج أو المعلومات وتكلفة طباعتها من الكمبيوتر، تعني أن الكثيرين ما زالوا يُفضلون شراء الكتب في صورتها التقليدية، أي الكتاب الذي نعرفه جميعا، كما أن متعة التفرج على الكتب وتصفحها في المكتبات ومعارض الكتب تظل من المتع الرئيسية، كما كانت خلال القرون الماضية منذ أن ظهرت المطابع.

هذا القول لا يرسم صورة نهائية لصيغة العلاقة بين المتلقي والتكنولوجيا الحديثة. ذلك أن التحول الاجتماعي يتأخر دائما عن الإمكانات التكنولوجية، والناس لا يقبلون على استخدام التكنولوجيا إلا عندما تصبح مناسبة لهم، ويسقط الحاجز النفسي بينهم وبينها، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ كيف ستكون عليه الأحوال في المستقبل، حيث تختفي الأجيال الكبيرة، وتصبح الأرض مُلكاً لأجيال أخرى تشربت التقنيات الجديدة منذ الصغر، واكتسبت عادات ومهارات غير تلك التي نعرفها الآن، فقد ينشأ وضع غير مسبوق تبدو فيه الأمور مختلفة جذرياً عما نعهده وعهدناه. في كل الأحوال، فإن وضع اليوم يبدو إلى حدود بعيدة وضعاً مركبا أو توليفياً بين عادات قوية راسخة موروثة لا يمكن إزالتها بقرار أو برغبة، وبين عادات جديدة توفرها التقنية تشق طريقها قُدماً للأمام، ومن عادة التوليف أن يُنشئ وضعا مزيجاً، لا هو بالجديد تماما، ولا هو بالقديم تماما، هو نفسه الوضع الذي نحياه اليوم، ولا نعلم إلى متى سيستمر.