المنشور

مستقبل السياسة الإيرانية المذهبية ( 3 )


يقتطعُ الدستورُ الإيراني بعضَ الآيات من القرآن ويضعُها في سياقِ مواده، معبراً بهذا عن استمرارية تمسك الأمم الإيرانية بالإسلام، وهو أمرٌ جيد، ولكن بأي فهم يجري ذلك؟ وإلى أي غايات؟ يستخدم الدستور آية (وأمرهم شورى بينهم)، ناقلاً إياها من سياقها التاريخي القديم، إلى سياق تاريخي معاصر، وقد عبرتْ هذه الآيةُ عن المرحلةِ المدنية وظهور بداية الدولة الإسلامية، فلم يكن هناك سجونٌ ولا شرطةٌ ولا برلمان منتخب، فأخذت الدولة الوليد ما هو شائع من عقوبات عند العرب وما في الدينين السماويين اليهودي والمسيحي، كما حولت مؤسسة القبيلة التشاورية إلى هيئة سياسية عفوية، ولكن مؤسسة التشاور البسيطة والشعبية المؤثرة هذه كان يرفدها نظام اقتصادي للغنائم التي توزع على المقاتلين والفقراء عموماً بشكل توسيع للملكيات الصغيرة وليس لتعضيد ملكيات كبيرة في ميدان الإنتاج، وخاصة لم تكن هناك مؤسساتُ دولةٍ اقتصادية هائلة وأجهزة عنف متمرسة وقديمة، ولهذا كانت القيادة تلتقي المؤمنين خصوصاً بشكل حر، وكان النصُ القرآني الآلهي نفسه يرتبطُ بهذه العملية الحوارية، هنا تغدو(الشورى) معبرةً عن سياق تاريخي محدد.
 أما حين تكون الدولةُ تملكُ الأخضرَ واليابس، كالدولة الإيرانية وغيرها من دول الشرق فأي شورى حينئذٍ تكون؟! إن الدولةَ هنا قادرةٌ على خياطة بدلة برلمان مناسبة لسطوتها، فالتحكم في ملايين العاملين في الدولة والمنظمات الجماهيرية التابعة وفي أرزاق الفقراء والأغنياء يكفي لتشكيل برلمانات تابعة لجهازها أو لأجهزتها، وليس دور البرلمان سوى نقد بعض السلبيات في ملكية الدولة هذه. ولهذا فإن نقلَ تلك الآية من سياقِها التاريخي الديمقراطي ووضعَها في سياقٍ آخر مضاد، استبدادي، يكونُ جملةً من التعمية للوعي الديني المسيطر على الحكم وعلى الجمهور، في حين ان المطلب هو تطبيق آية الأخماس القرآنية وتوزيع الثروات على الناس وتفكيك سطوة الملكية العامة الهائلة عن الأسواق ورقاب البشر. وإذا كان هذا ممكناً سينعكسُ ذلك على السياسة الخارجية، لكن ذلك يتطلبُ صعود رؤى ديمقراطية شعبية داخل المذهب المُسيّس وبروز زعماء يؤيدون ذلك من داخل الأجهزة وخارجها.
لكن تلك الآية القرآنية وتوظيفها المؤدلج يترافقُ مع جملةٍ من الأدوات التحكمية، حيث تطبقُ عقوباتٌ لا تعبرُ عن إنسانية الإسلام، وبجعل رجال الدين من مساهمين في الحكم ورقباء عليه إلى حكام مطلقين يوقفون الاجتهاد.
وهكذا فإن إيران بحاجة إلى حلقة وسط من التحكم الكلي لرجال الدين إلى أن يظهر رجالُ دينٍ يخففون من هذه الملكية العامة، ويدعمون حضورها الديمقراطي الاجتماعي المسعف لفقر الناس ومساعدتهم، مثلما ينشطون المنظمات الجماهيرية باتجاه الحرية والالتزام كذلك بمصلحة الدولة والمجتمع.
 ومن هنا فإن الدستورَ الذي يضعُ السلطةَ الحقيقية الكلية في إيدي رجال الدين الكبار، يكونُ سلطةً شموليةً بزحزحة آيات القرآن من دلالاتها الحقيقية، وجعلها في خدمة القلة الغنية الكبرى، مثلما حدث في زحزحة الجمهور الشعبي عن الثورة ووضعها في أيدٍ أخرى.
وهذا السياقُ المضاد للآية السابقة الذكر يرينا المسارَ المعاكسَ الراهن للدول التي ترفعُ الآيات بهذا الشكل، أي تؤدلجها خلافاً لجوهرها، مثلما فعلتهُ الدولتان الأموية والعباسية، التي أخذت الملكية العامة المتكونة في عهدي عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وبلَعَها أمراؤها وخلفاؤها، وقد كانت توجهتْ للتوزيع العادل والرحمة بالأغلبية، وبتجاوز خاص لآيات الأخماس وبفهمٍ جديد لها، ينقلُ العدلَ السابق إلى مرحلة أكثر تطوراً وأوسع شمولاً للفيء، بخلاف ما جرى في الدولتين الأموية والعباسية، وإذا كان لدى القطاع العام في إيران بعض الجوانب الاجتماعية المفيدة إلا أن أحجام البيروقراطية الهائلة ومشروعات الدولة العسكرية وغياب الديمقراطية تؤدي إلى التوزيع الأموي – العباسي نفسه.
إن السلطة العليا هي بأيدي رجال الدين الكبار، وليس رئيس الجمهورية والبرلمان والوزراء سوى التجسيد البشري للسلطة العليا الإلهية، ثم يخفت النور كلما نزلَ للأرض السياسية الاجتماعية حتى يتمرغ في الطين البوليسي، ويمكن لهذه السلطات الأرضية المتعددة أن تختلف لكنها لا تستقل وتصبح مستقلة. يؤسسُ ذلك الفيضُ النقودي البترولي، فأغلبيةُ الدخل القادمة من النفط لا يعادلها دخلٌ مالي من قوة أخرى، ولم تستطع البرجوازية الصناعية الإيرانية أن تمثلَ ثقلاً كبيراً بهذا الصدد، وحين تصل إلى مقاربة الدخل الحكومي يكونُ لها شأنٌ آخر فيبدأ هذا البناءُ السياسي بالتغير. فالأبنيةُ ليست وليدةَ الرغبات بل نتاج علاقات اقتصادية موضوعية. وعلينا مراجعة وجود هذه البرجوازية الصناعية والخاصة عموماً ومدى قدرتها على الحراك الاجتماعي المغاير. وهو أمرٌ شديد الصعوبة ولكن نستطيع أن نطرح بعض الشظايا الاقتصادية والاجتماعية التي لن تشير إلا إلى تضخم الدولة وجبروتها مهما كانت خصخصتها.
 
أخبار الخليج 27 سبتمبر 2008