المنشور

وزراؤنا.. واللغة العربية

لعل من نافلة القول إن مظاهر التردي والتراجع التي باتت تواجهها لغتنا العربية في المرحلة التاريخية الراهنة التي تمر بها الأمة العربية لا تقتصر فقط على تزايد التخاطب باللغات الأجنبية، وعلى الأخص الانجليزية، في المعاملات الإدارية الرسمية، ناهيك عن إحلالها وتوطينها في وسائل الإعلام العامة من صحافة وقنوات فضائية وبريد اليكتروني و”انترنيت”.. إلخ، سواء استدعى الأمر لهذا أم لم يستدع مادامت هذه اللغة الأجنبية أضحت وسيلة للتباهي بالنبوغ والمعرفة والتحضر. وبات من أبرز مظاهر هذا التدهور التي تواجهه لغتنا العربية أنها حتى عند استخدامها في المخاطبات الإدارية الرسمية لا تسلم من العبث الصارخ بقواعدها النحوية والإملائية.
ويمكن القول بكل اطمئنان إن ما لا يقل عن 90% من المراسلات والمخاطبات الرسمية المتداولة اليوم فيما بين الإدارات والمؤسسات الرسمية باللغة العربية لا تخلو من الأخطاء اللغوية والنحوية الصارخة حتى في أبسط العبارات التي يفترض أن يلم بها طالب في السنة الرابعة ابتدائي، في حين يقع في هذه الأخطاء وزراء ومسئولون إداريون كبار من وكلاء ووكلاء مساعدين ومديرين ورؤساء أقسام.
وهي أخطاء تحدث إما لتدني مستوى الوزراء وكبار هؤلاء المسئولين الإداريين المساعدين له حتى في أبسط قواعد اللغة العربية، ناهيك عن ركاكة الأسلوب اللغوي، وإما لعدم تأنيهم بمراجعة ما يوقعون عليه من مراسلات وتقارير ومذكرات وقرارات إدارية بأسمائهم حيث تكون أعينهم في الغالب مصوبة على موقع التوقيع بعد الاكتفاء بنظرة عابرة سريعة جداً على نص القرار أو الخطاب أو المذكرة الزاخرة بالأخطاء المطبعية والنحوية والإملائية.
ولعل هذه الظاهرة اللغوية المؤسفة باتت تسود معظم الوزارات والمؤسسات الحكومية العربية وعلى الأخص في دول الخليج العربي ودول المغرب العربي. ولربما الحالات الاستثنائية الأفضل نسبياً هي الحالات التي تتطلب توقيع الشخصيات القيادية العليا في الدولة العربية كرؤساء الدول أو رؤساء الحكومات حيث يجرى التدقيق مقدما في نص الخطاب أو القرار أو المذكرة أو المرسوم المزمع عرضه على رئيس الدولة أو رئيس الحكومة للتوقيع عليه.
وفي تقديري الشخصي انه كلما كان المسئول العربي الأعلى في المنظمة الإدارية، حكومية كانت أم خاصة، غيوراً على هوية بلاده اللغوية ولديه اهتمام بسلامة هذه اللغة العربية والارتقاء بالأسلوب الذي يكتب به نص الرسالة أو المذكرة أو التقرير أو القرار، انعكس ذلك على حرص المستويات الإدارية الأدنى منه بدورها اقتداء ومراعاة بهذا الاهتمام لدى رئيسهم الأعلى، هذا إذا ما كان هؤلاء المرؤوسون قديرين حقاً وعلى كفاءة في الإلمام بأبسط قواعد اللغة وأساليب الكتابة الصحيحة السليمة.
وقد كتبت مرات عديدة بأنه إذا ما استمر تجاهل المراسلات والقرارات والدراسات الرسمية في الدول العربية بلغة عربية سليمة فإن ذلك سيمتد حتى إلى رموزها وشعاراتها المهمة، وهذا ما وقع على سبيل المثال، لا الحصر، من خطأ مؤسف في كتابة تمييز العدد في بعض القطع المعدنية الجديدة لعملة مملكة البحرين والذي نبهنا عليه عدة مرات، وطالبنا بضرورة تجاوزه عبر السحب التدريجي لهذه القطع واستبدالها، وما من مجيب. وفي تجربتي الشخصية الإدارية في العمل الحكومي الممتد طوال ثلاثة عقود ونيف فلعل من الوزراء الذين احتككت بهم وعرفت بأن لديهم اهتماماً بسلامة اللغة العربية في نصوص المذكرات والتقارير والقرارات الإدارية التي تمرر عليهم كلا من محمد علي منصور الستري وزير العدل السابق حينما كان مديراً لإدارة التخطيط والشئون الفنية بوزارة العمل والشئون الاجتماعية، وهو بالمناسبة من خريجي حوزة النجف الأشرف، ووزير العمل والشئون الاجتماعية الأسبق الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة، وهو بالمناسبة لا يتوانى أحياناً خلال العمل عن إضفاء روح الدعابة بطرائف عربية فصيحة حتى في تعليقاته المكتوبة على الأوراق الإدارية. كما يُعرف عن مستشار سمو رئيس الوزراء للشئون الثقافية الاستاذ محمد المطوع بطرائفه واهتماماته اللغوية في كلماته وتصريحاته. ومن الوزراء أيضاً الذين أعرفهم وربطتني بهم علاقة عمل إدارية ويولون اهتماماً فائقاً في مراجعة نصوص المراسلات والتقارير الإدارية والتدقيق في مدى سلامتها لغويا وأسلوبا وزير العمل والشئون الاجتماعية السابق عبدالنبي الشعلة، إذ من المعروف عن “أبي مشعل” أيضاً ليس اهتمامه بالتدقيق في التقارير والمراسلات الإدارية من حيث سلامة اللغة ورقي الأسلوب فحسب، بل وقدرته أيضاً على توليد الأفكار ومزجها وصقلها في قالب أو نص لغوي متناغم واحد وذلك من خلال تكليف أكثر من باحث أو مستشار من مستشاريه بمهمة إعداد التقرير أو الخطاب المطلوب ليتضمن مقترحات أو أفكاراً محددة ثم يقوم أبو مشعل باستخلاص حصيلة تقرير كل منهم ودمجها في صيغة واحدة في تقرير واحد أو خطاب واحد. كما يُعرف عن وزير خارجية مصر الأسبق عمرو موسى، الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية، بشغفه باللغة العربية وهوسه أيضاً بالتدقيق اللغوي في المراسلات والتقارير الإدارية، كما يتمتع العديد من الوزراء العرب بقدرتهم على الارتجال الفصيح أو إلقاء كلماتهم المكتوبة بلغة عربية خالية من اللحن أو الارتباك والتأتأة، كما هو الحال المؤسف والفاضح لدى وزراء بحرينيين وعرب آخرين. وأخيراً فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: مادام كل المؤسسات والدواوين الحكومية، ولاسيما دواوين القيادات العليا، لا تخلو من المتخصصين اللغويين الذين يبذلون قصارى جهودهم بأن تكون نصوص المراسيم والقرارات الإدارية التي تعتمدها وتوقع عليها تلك القيادات العليا سليمة لغويا ولائقة أسلوبا، فما الذي يمنع من تعميم هذا الاهتمام نفسه وجعله قانونيا الزاميا في كل المستويات والمؤسسات الإدارية، بلا استثناء، إذا ما كنا مقتنعين حقا بأن صيانة لغتنا العربية وحفظ مكانتها ينبغي ألا يقتصر على مستوى إداري دون آخر؟!



أخبار الخليج 27 سبتمبر 2008