المنشور

مستقبل السياسة الإيرانية المذهبية (1)

لا بد لنا من نظرة تحليلية ملموسة لبعض الأنظمة والحركات الدينية الإسلامية من أجل تبصر آفاق هذه الكيانات السياسية وكيفية نموها، وهل ستكون كوارث على الأمم الإسلامية أم ستقدم التنمية والحرية والرفاه للشعوب؟ لدينا جمهورية إيران الإسلامية كنموذجٍ واعدٍ للتجارب التحولية وعلينا قراءة خريطتها الموضوعية، فماذا قدم هذا النظام؟ وكيف هي الأرض الواقعية له؟ وسنلجأ للاحصائيات في ذلك، لأنها تكشف المنجزات والمشكلات. ولكنها وحدها لا تستطيع أن تكشف الصورة كاملة.
(تتكون إيران من خليط من القوميات الفسيفسائية، فالقومية الفارسية تبلغ 50% من عدد السكان، تليها القومية الآذرية بنسبة 24% وهي قومية تعود لجمهورية آذربيجان، تليها القومية المازندارنية التي تبلغ 8% ثم القومية الكردية بنسبة 7%، تليها القومية العربية التي تبلغ 3%، وهناك عناصر قليلة كالتركمان واليهود، والأرمن، والآشوريين)، من كتاب إيران الأبدية، ولكن يقوم المذهب الشيعي بتوحيد السكان فعدد السكان الشيعة يبلغ 90% في حين تصل نسبة السنة إلى 8%. ومن الناحية الاقتصادية يشكل البترول والغاز عصب إيران الاقتصادي، أي 80% من صادرات إيران للخارج، ولكن إيرانَ بلدٌ زراعي أيضاً فيقدر إنتاج إيران الإجمالي من النفط والزراعة بملبغ 100 مليار دولار سنوياً. وإيران كذلك ليست بلداً يعتمد على تصدير المواد الخام فقد بدأت التصنيع ولكنه تصنيع محدود، فقد حققت إيران نجاحاتٍ في صناعة السيارات وفي الصناعات الإلكترونية والصيدلة. المصدر السابق. تشير تلك الحيثيات المختلفة إلى جوانب متضادة في البناء السياسي الإيراني، فتمثل المذهبية السياسية الشيعية عصب النظام وهيكله العظمي، فهي الموحدة لفسيفساء هذه القوميات، التي تم دمجها في مسار نمو النظام السياسي – المذهبي المتكون خلال أربعة قرونٍ خلت، وإذا انفصلت بعض القوميات خاصة الآذرية والعربية فإن هيكل الدولة يتحطم، وهو أمر سياسي مرفوض لكون تمزيق الحدود المعترف بها هو كارثة. ولكن هذا الفهم العصري لا يدخل في وعي المذهبي السياسي، الذي يعتقد ان الدينَ(ويعني مذهبه الخاص) سابقٌ للحدود. أي أنه لا يعترف بما يقوي لحمة النظام. ويذكرُ دستورُ جمهورية إيران الإسلامية طبقاً لمادته الحادية عشرة عالماً قومياً سياسياً واحداً بين المسلمين، فتعتبر إيران نفسها جزءًا من نظام سياسي إسلامي واحد، حيث تقول(يعتبر المسلمون أمةً واحدة، وعلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية إقامة كل سياستها على أساس تضامن الشعوب ووحدتها، وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي). يوجد في هذا النص عدم اعتراف بتعددية الأمم الإسلامية، فلا توجد أمة واحدة، بل أممٌ، وفهم الأمة الواحدة يعود للعصور الوسطى، حيث المسلمون (ملة) واحدة، لكن الشعوب الإسلامية تصادمت بسبب الامبراطورية الواحدة وشكلت استقلالها فتوجهت لتكون أمماً متعددة فتباين الطابعُ المللي عن الطابع القومي، وهذا لا ينفي وجود دين واحد يمثلُ جذورَها الحضارية، بل ان تطورات السياسة الحديثة جعلتْ بعضَ الشعوب التي هي أجزاءٌ من أمةٍ كالأمة العربية أو الآذربيجانية دولاً مستقلة. إذاً يقومُ دستورُ جمهورية إيران على توهم ايديولوجي بوجود أمة واحدة مُفترضة، وعدم الاعتراف بالتكون الحديث لها وهي أنها أصبحت أمماً وشعوباً، وهذا التكون ينهلُ من الإسلام وليس مضاداً له، وبالتالي تغدو أي عملية تعاون ووحدة تجري بين أمم ودول مستقلة لها سياساتها وطرق تطورها الخاصة. ولا يجوز هنا وجود مركز يلغي هذا التنوع ويعتبر نفسه موحداً لها. لكن عدم الاعتراف الإيراني السياسي المذهبي بوجود أمم إسلامية متنوعة، هو جزءٌ من الرؤية الخاصة بتطور المذهبية السياسية المسيطرة داخلها، فمع سيطرة الاثني عشرية بفهمِها الإيراني الخاص، تصاعد دورُ رجال الدين فوق شبكةٍ هائلة من التنظيمات الدينية الاجتماعية، التي راحت تضخُ الأموالَ لكبار رجال الدين، وهي شبكةٌ مختِرقة لتكونات الشعوب والأمم الإسلامية، استمرتْ قبل وبعد تكون هذه الأمم المستقلة، وأنشأتْ ثقافةً عابرةً للحدود كثقافة المذاهب السنية كذلك والمسيحية في العصور الوسطى والحديثة، ونظراً لتشابك مصالح رجال الدين والمنظومة الاجتماعية ولضخامة هذه المصالح فصارت تكويناً فريداً معاكساً لتطور بقية الأمم، وعبر عن تصاعد هيمنة كبار رجال الدين على الحياة، لكن ليس من موقع الشريك لرجال السياسة بل من موقع المسيطر من أعلى. يقول فهمي هويدي في كتابه عن الثورة الإيرانية وكان متحمساً لها بأن آيات الله العظمى يمتلكون موارد مالية هائلة تتجاوز إمكانية دول.
 
صحيفة اخبار الخليج
25 سبتمبر 2008