المنشور

مسارات السياسات المذهبية (4)

لا بد لنا لفهم حركات المذاهب السياسية الإسلامية من العودة الوامضة لتاريخية هذه المذاهب وعلاقاتها بالسياسة بدرجة خاصة، فقد تمحورت المذاهبُ السنيةُ على ذاتِها في بدءِ نشأتها في القرن الثاني الهجري خاصة، وكان موقفها من علم الكلام موقف التقبل بعض الوقت ثم الرفض، وأخذت تعالجُ مسائلَ التطور من خلال النصوص الدينية وحدها، قبولاً أو تأويلاً. كان علمُ الكلام حينئذٍ يتمظهرُ بحركة الاعتزال السنية التي كانت تتأولُ حرفيةَ النصوص من أجل مزيدٍ من الانفتاح على العصر وقتذاك، ثم كانت الفلسفةُ قفزةً أخرى في عملية التأويل، ولكن الفلسفة حين صاغها فلاسفةُ السنة وهم ابن خلدون وابن باجة وابن رشد، كانت ذروة تطور وعي المسلمين النظري في فهم العصر الوسيط برمته، وهي الخميرةُ التي انتقلت إلى أوروبا، وأسست بداية النهضة الحديثة العالمية. ولكن المذهبية السنية عند الأئمة ابي حنيفة النعمان ومالك والشافعي وابن حنبل، رفضتْ التفلسفَ، وإن كان أبو حنيفة والشافعي قد قبلا اجتهادات الفلسفة من داخل قراءتهما للنصوص الدينية بخلق عقل ديني متفتح على تطورات الحياة، ولكن الأئمة الأربعة رفضوا التبعية للحكومات، وتوجه الثلاثةُ الأُولُ إلى درجاتٍ مختلفة من الاجتهاد. والأربعة كذلك رفضوا (الثورة) ورفضوا التوظيف السياسي من قبل الدول، وشكلوا الاستقلال السني المذهبي، وهو الأمرُ الذي قاد المذاهبَ السنيةَ للتنوع والاجتهاد والمقاومة، وإن كان الكثير من تلامذتهم لم يلتزموا نظراتهم العامة هذه ودخلوا في تبعية للحكام وعدم التطوير للاجتهاد، وكان ابن حنبل رغم رفضه الشديد للاجتهاد لكنه لم يقبل الثورة وانعطفت أفكار تياره إلى الاعتراض على الحكم ومرونته وليس على تشدده. وهو خطٌ انغرس بعدها في زمن غياب الاجتهاد مع تصعيد الجهاد ضد الغزو الصليبي وشكل ما عُرف بحركات السلف الجهادية، وكان تركيز هذا الخط على التقبل الكلي للمأثورات الدينية قد عكس تدهور العلوم عند المسلمين. في حين قامت الاثنا عشرية على أساس مختلف، على وعي دولة مكتملة، لها نصٌ واحد، من القرآن حتى أقوال الأئمة، وأدت الصراعات ضد هذا الاجتهاد الإسلامي إلى محاصرته وإلى رفضه للتنوع والتعددية وجاءت التعددية لديه فقط داخل واحدية النص، وعدم القبول بأي حكم خارج التناسل الإمامي. وكان المسار الاثناعشري المتوجه نحو إيران قد جعله يتشكلُ وفقاً لنمو القومية الفارسية الملكية المطلقة المتوارية تحت أطروحاته، فظهر الحكمُ السلالي الإلهي، والذي راحَ يبحثُ لنفسهِ عن شكلٍ سياسي عبر العصور، وليست غيبة المهدي سوى شكل هذا البحث عن نظام سياسي عادل متوافق مع الجذور والتطورات السائدة في الوعي المذهبي. ومن هنا كان التباين مع التوجهات السنية التي كانت في جذورها بدوية جمهورية، لا تعرف المراتبية الطبقية والسلالية، ومن هنا كان عدم القبول بحكم أسرة مقدسة أو بجماعة دينية مطلقة، وقد أخذ هذا المسارُ يُضرب من قبل الحكومات الدينية الأسرية المطلقة ويُجير لها. هذا المسارُ الديني المزدوج العام يخضعُ للأوضاعِ الملموسة في كل عصر ومرحلة، وكنا قد رأينا كيف أخذت الحركاتُ العصرية التحديثية العربية الإسلامية تعودُ إلى التقليدية والشمولية مثلما حدث ذلك للحركات المعارضة الإسلامية القديمة:الاعتزال والقرامطة والزيدية الخ، نظراً لإبقائها على النظام التقليدي بثوابته، وعدم تغييره، فالماعون الإقطاعي هو نفسه، وهو الذي يعيدُ طبخَ المواد المستوردة ويعيدُ تشكيلَها، فلم يحدث تغيير لهذا الماعون، ونوافيه هي عمليات تحرير الفلاحين وتحرير الإسلام من أقلياتِ الاستغلال النصوصية وتحرير النساء وتحرير الحكم من الاستبداد. وتمظهر ذلك في العراق بذوبان حزب البعث في الهياكل السياسية الإقطاعية البدوية، فيظهر الدكتاتورُ كنتيجةٍ لتمركزِ السلطات بين يديه، ولنمو الفساد وهدر الثروات على التسلح والبذخ، ومن هنا كان الصدام مع الثورة الإيرانية واستغلال ضعفها للتوسع، فكان هذا الغزو يشيرُ لخللٍ عميق في النظام، الذي لم يجدْ سوى التراجع عن رؤية البعث القومية العلمانية والذوبان في الشكلانية السنية المحافظة، وتحويلها إلى رايةِ حربٍ ضد الاثناعشرية، وكان انجرارُ بعضِ الدول العربية لهذا علامةً أخرى على تفاقم الطائفية، وبدء اتساعها السياسي المخيف، فغدا ذلك مبرراً للقوى السياسية الحاكمة في إيران لتوقف مد الثورة الشعبية وتسليم الحكم لكبار رجال الدين التقليديين. نستطيع أن نقول إن هذه الارتدادات للوعي الطائفي بين الضفتين الفارسية والعربية، تعكس الصعود الكبير للأقليات الحاكمة الاستغلالية وتضخم ثرواتها، وغياب أي علاقات ديمقراطية مع الجمهور ومع التراث الإسلامي، وراحت الضفتان تضخان الموادَ العتيقة وتعيدان إحياءها وإعادة عقارب الساعة للوراء.
 
صحيفة اخبار الخليج
23 سبتمبر 2008