المنشور

مسارات السياسات المذهبية (3)

إن ثلاثَ دولٍ كبيرة في المشرق وهي مصر والعراق وسوريا تقاربت في حركة سياسية تحديثية، ولكن الحرث في الأرض لم يتعمق ثم ذهب، بسبب عدم جذريتها التحديثية، فهي ظلت أنظمةً استبدادية، وتقومُ فيها الفئاتُ العليا في الحكم بنخر الثروة فتتهاوى الثورة. وبهذا فإن التجديدات على مستوى التراث والعصر تغدو مصلحية مرهونة بالحكم. وبهذا فإن هذا الخليط من الايديولوجيات: القومية والسنية المذهبية والماركسية والليبرالية وصل إلى التفكك الداخلي، والتضارب، لكون أي فكر يربط نفسه بسيطرة دولة يذوي، وبهذا نرى محمود أمين العالم الماركسي يتفق مع محمد عمارة على اشتراكية النظام. وفيما يتعلق بموضوعنا وهو قراءة التوجهات المذهبية فإن التوجهات السنية الرسمية في هذه الأنظمة أخذت تبتعد عن الناس، فقدرتها على ربط المذهب بالعصر محدودة، وهو أمرٌ يتعلقُ بالتحديات النظرية خاصةً تحديات الماركسية والليبرالية، كذلك غدت مُلحقةً بالنظام وفتاواها تدورُ في فلكه، مثل عدم نقد الاشتراكية والتأميمات أو بقبولها ببعض الحداثة القشورية للأنظمة. أي أنها وجدت نفسها مؤدلجة وغير مرتبطة بالحركة الشعبية الناقدة للأنظمة. في حين ان حركة الاخوان المسلمين ربطت نفسها بذلك، وتوجهت وقتذاك إلى معاداة حركة الحداثة العربية حتى بمستواها الوسطي المتقلقل، بسبب الصراع على السلطة في مجلس قيادة الثورة ثم في الحياة، وبهذا حدث انقسامٌ كبيرٌ في التوجهات السنية السياسية السائدة. فصار الصراعُ السياسي المذهبي بين السنة والشيعة المتكون في الساحة العراقية خاصة، صار صراعاً بين مستويات السنة نفسها، بعد سقوط نظام عبدالكريم قاسم، فوجدنا الصراعَ بين الجمهوريات والملكيات العربية السنية هو المستعر كما في اليمن. كان هذا يعبر ليس فقط عن هروب قيادات الاخوان المسلمين إلى السعودية، بل عن حركة أكبر هي حركة تبدل مراكز الثروة، وبالتالي تبدل السكان وانتقالهم وحركة أفكارهم. ونظراً لتحول المراكز الصحراوية والريفية إلى الهيمنة على أهم مصادر إنتاج الثروة فقد راحت تضخُ ثقافتَها للمراكز المدنية المسيطرة سابقاً خاصةً في مصر، وتبدى ذلك ايديولوجياً في خفوت الناصرية والليبرالية والماركسية والبعث، فمراكز الجزيرة العربية راحت تضخُ موادَ المذهب السني الشديد النصوصية والحرفية، وهو مذهب لا يُعملُ العقلَ كثيراً في مواد الدين، ويأخذها كمادة خام مقبولة بشكل متوسع، وهو أمرٌ يسايرُ الأوساطَ البدوية وشبه الحضرية، ولكن تغلغله في مدن كبرى كالقاهرة ودمشق وبيروت، يعبر عن هذه الهجرة الواسعة للسكان الريفيين إلى هذه المدن المتسعة، وتفاقم الأزماتُ فيها، فإذا دُعم ذلك بتنظيم قوي كالاخوان مرفود بثروة نفط ضد نظام أخذت تتفاقمُ تناقضاتهُ الداخلية، يحدثُ ذلك تبدلٌ للصراع السياسي، ويظهرُ تفاوتٌ للمذاهب السنية وصراع في مستوياتها، فالآراء المجلوبة من مستوى صحراوي تناقض المستوى المدني الهش غير المتجذر في المدينة الحضرية، التي تعيش أوساط كثيرة منها في القرون الوسطى معيشةً ومقاماً مهمّشين من سلطة مستبدة. وهكذا فإن التشدد في اللباس والمظاهر والشعائر الدينية تأخذ في السيطرة على المفهوم الديني الساعي سابقاً لمواكبة الحداثة. علينا هنا أن نرى التأميمات ومصادرة الأملاك الخاصة من قبل الحكومات (العسكرية) للملكيات الصناعية بدرجة أساسية في ذلك الحين ليس ضرباً للملكية الخاصة في وسائل الإنتاج فحسب، ولكن كذلك بأنها حركة تتسم بالمغامرة وبغياب بُعد النظر ومؤدية لتباطوء صناعي على مستويات عدة وتصعيد للبيروقراطية والفساد. وبطبيعة الحال كانت هذه التأميمات من وجهة نظر الماركسية والقومية والسنية الرسمية إنجازاً، بتبريرات مختلفة، ولم تقم هذه الحركات بمقاربات دقيقة لهذه القضية الحساسة على مستوى الدين والعصر. وبطبيعة الحال وضعت ذلك الحركات الدينية السنية أو الشيعية في العراق وقتذاك، مثل هذه المصادرات المرعبة للملكية الخاصة في خانة الجريمة.
 
صحيفة اخبار الخليج
22 سبتمبر 2008