المنشور

قبل أن نصبح تحت ركام الهرم المالي العالمي

حجم الاقتصاد العالمي الفعلي اليوم مقدراً بالدولارات الأميركية يساوي 48 تريليوناً تقريباً، وحجم سوق المال العالمي مقدراً بالدولارات إياها يساوي 144 تريليوناً تقريباً. أي أن الاقتصاد العالمي معبراً عنه في سوق الأسهم والأوراق المالية يساوي ثلاثة أضعاف قيمته الحقيقية. بعبارة أخرى، إن قيمة الاقتصاد العالمي منفوخ فيها لدرجة أن ثلثيها ليست سوى وهم، أو كذبة كبرى اسمها الدبلوماسي فقاعة. وفي مقال الأسبوع الماضي عرفنا أن مجموع الدَّين الأميركي (حكومي + شركات وأفراد) يفوق حجم الاقتصاد الأميركي بأكثر من خمس مرات. أي أن الاقتصاد الأميركي يعيش هذه الفقاعة أكثر من غيره. وأكثر من ذلك، أنه يستهلك بنهم على حساب بقية العالم.
ليست ظاهرة الفقاعة حديثة في النظام الرأسمالي العالمي. أتذكرون أزمة انهيار شركات «الدوت كوم» والحاضنات في تسعينات القرن الماضي؟ قيمة أسهم بعض هذه الشركات هبطت من فوق مئة دولار لتقترب من قيمتها الحقيقية – ثلاثة دولارات. على أن ذلك لم يكن بداية تعرف العالم على ظواهر فقاعات الاقتصاد الرأسمالي. وتعالوا معي إلى أجواء الثقافة والأدب قليلاً، قبل أن نعود ثانية إلى أكبر فقاعة ستنفجر في وجوهنا.
ديفيد ليس David Liss، عالم متخصص في التاريخ الإنجليزي، لكنه فجأة تحول نحو فن الأدب. نتيجة هذا التحول أذهلت الجميع. أول نتاج أدبي له «مؤامرة الورق» (A Conspiracy of Paper) صدر العام 1966 في الولايات المتحدة الأميركية وجد له صدى واسعاً وحاز على جائزة إدغار الثقافية كأفضل باكورة للعمل الوثائقي. وقد تمت ترجمته إلى أكثر من 15 لغة، وتحول العمل إلى نتاج سينمائي. قيل عن ديفيد ليس أنه اخترع طرازاً جديداً في الأدب: الإنتاج الوثائقي التاريخي – المالي. لقد نجح ليس بحيل ذكية في خلق نمطه الأدبي عندما استطاع أن يشخص بصدق حياة لندن في الربع الأول من القرن الثامن عشر، وخصوصاً في تقديم لوحة فنية رائعة تصف ولادة بورصة المال عندما جاءت الأوراق المالية والأسهم لتحل محل الذهب واضعة البداية للعهد المالي جديد.
ومن حوار دار في هذا المؤلف نقتطف الآتي مترجماً بتصرف:
«لماذا عليّ أن أصدقك؟ ألم يحدث أن كنت تحدق في عيني مباشرة عندما كنت تقول أموراً ثبت فيما بعد أنها كذب منمق؟
ربما حدث ذلك. عندها كان الكذب ضرورياً. أما الآن فليس ثمة ضرورة لذلك.
لقد أثبت أن كلماتك لا تساوي شيئاً. فعلى أي أساس أصدقك؟
عليك أن ترغب في التصديق (قال مبتسماً)، وهذا هو الأساس.
كما هو الحال مع المال الجديد (قلت ملاحظاً)، فهو يعمل فقط ما دمنا نصدق أنه يعمل.
نعم، لقد تغير العالم. فإما أن تتغير معه لتزدهر، وإما أن تظل تهدد السماء بقبضتيك. إنني أفضل الخيار الأول. فما أنت فاعل؟
أجل، سوق المال بالتحديد ليس موضوع معرفة، بل موضوع ثقة. فقيمة أي سهم ليست أكثر من مؤشر على الثقة في الشركة المصدرة له، أي على الأقل الثقة في السوق الذي تحتل فيه الشركة مكاناً ليس أخيراً.
ارتفاع سعر السهم يعكس ارتفاع الثقة، وبالعكس، يأتي انخفاضه نتيجة انعدامها. وللمفارقة، فقد يشكل الانخفاض ذاته منقذاً، حيث تستطيع اليوم أن تبيع ما لن تحصل مقابله على قرش واحد غداً. هذا كل ما في الأمر. وإذا كان الاقتصاد الزراعي (الطبيعي) يعبر عنه مباشرة بقيمة محاصيل ملموسة والاقتصاد التجاري (المركنتلزم) بقيمة سلع منتجة وملموسة، فإن الاقتصاد المالي السائد والسيد في الاقتصاد العالمي اليوم يعبر عنه بقيمة تستند إلى أساس معنوي أكثر مما هو مادي.
لقد شكل انهيار «ليهمان براذرز» (Lehman Brothers) رابع أكبر مصرف في أميركا يتحكم في أصول تزيد قيمتها على 600 مليار دولار، والذي أدى إلى انهيار بورصات المال العالمية، مؤشراً أساسياً على ضعف الاقتصاد الأميركي. هذا ما ردده كثير من علماء الاقتصاد الأميركيين وغيرهم الأسبوع الماضي. ولم تجد نفعاً محاولات ضخ المصارف المركزية الغربية مليارات الدولارات في الأسواق. كما أن كل المحاولات التي أبدتها وزارة المالية ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركيين من أجل إنقاذ «Lehman Bros» باءت بالفشل.
وكل الذين كانوا ينوون شراء هذا المصرف، كمصرفي التنمية الكوري الجنوبي وباركليز البريطاني، أحجموا عن صفقة كهذه بعد أن درسوا تفاصيل وضعه. اعتبروها صفقة مغامرة، وأن ضمانات الحكومة ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركيين غير كافية. هذه المرة بدا عالمنا الخليجي يتهيأ بجدية أكبر «لتأثير دومينو الأزمة المصرفية الأميركية عليه». مع كل أزمة في السابق كنا نسمع أن اقتصادنا مستقر وبعيد عن تأثيرات الأزمة الأميركية أو العالمية إلى أن تدهمنا الأزمة. ورغم أن مثل هذا السلوك لايزال منسحباً حتى الأزمة الحالية، إلا أننا أصبحنا أكثر تواضعاً وواقعية هذه المرة.
في الأسبوع الماضي تم الاعتراف صراحة بأن تراجع الأسواق السعودية بنسبة 5,6% جاء على إثر إعلان إفلاس مصرف «ليمان براذرز» والكشف عن اتجاه مصرف أميركا لشراء مصرف «ميريل لينش» المتعثر بخمسين مليار دولار، وذلك ما يعادل ثلاثة أرباع قيمته العام 2007 أو نصفها العام .2006 ثم تلت ذلك اعترافات أخرى في بقية بلدان الخليج.
وفي البحرين أقدم ولي عهد مملكة البحرين في اجتماع مجلس التنمية الاقتصادية الأخير على خطوة مطلوبة بالفعل حين أمر بتشكيل لجنة مصغرة لدراسة أثر أزمة الاقتصاد العالمي.
خطوة تستحق عالي التقدير، لكنها تحفز للمضي بالتفكير إلى أعمق من ذلك. أولاً، إن لجنة مصغرة على النحو الذي جاء في الخبر، سواء من حيث العدد أو التخصص، هي أصغر بكثير من حجم المهمة الكبيرة التي أسندت إليها. ثانياً، إن حصر المهمة بالتأثيرات الخارجية كالأزمة المصرفية الأميركية العالمية وانخفاض أسعار النفط وحمى المضاربات هو الآخر أصغر من حجم الأزمة المحدقة نذرها بأسواق المال والاقتصادات الخليجية.
إن أسباباً بنيوية داخلية قد تجعل أثر الأزمة العالمية أكبر بكثير من أثرها في بلاد المنشأ. وبرأينا فإنها تستحق الاهتمام الأكبر في التشخيص على طريق محاولة جدية للحد من أثر الدومينو.
ولنضرب مثلاً بتساؤل يطرحه الاقتصاديون الروس على أنفسهم هذه الأيام: إذا كان الغرب يعمل ضدنا، بينما تدعمنا قدراتنا العظيمة فلماذا تنهار أسواقنا بنسبة 50%، بينما في الغرب بنسبة 30%؟ بعبارة أخرى: كيف نخرج باقتصادنا من حالة الوهم وندخله حالة الاقتصاد الفعلي التي تكسبه ديناميته الذاتية؟ وقديماً قالوا إن صياغة السؤال بنحو صحيح يعطينا نصف الإجابة.

صحيفة الوقت
22 سبتمبر 2008