المنشور

شيء عن اللجان


ربما يكون ضرورياً ومفيداً أن نتذكر أن هناك عشرات لجان التحقيق التي شكلت على مدى السنوات القليلة الماضية، برلمانية وغير برلمانية انبثقت عن بعضها لجان فرعية، ولجان فنية، ولجان قانونية، وربما لجان أخرى تحت مسميات عديدة، وبصرف النظر عن خلفية تشكيل كل لجنة من هذه اللجان إلا أن الهدف المعلن في كل الأحوال لم يخرج عن دائرة تبيان الحقائق والكشف عن مكامن الخلل والتجاوزات والانحرافات والانتهاكات من أي نوع سواء أكانت قانونية أو إدارية أو جنائية وفي مواقع مختلفة من مواقع العمل والمسؤولية العامة .

لماذا هو ضروري ومفيد أن نتذكر ذلك جيداً الآن؟، هل لأن خبر طعن الحكومة في قانونية لجان التحقيق التي شكلها مجلس النواب خلال العامين الماضيين تحت ذريعة خروج هذه اللجان عن مسار التحقيقات التي أنشئت من أجلها على ذمة الخبر المنشور في هذه الجريدة مؤخراً، قد فهم منه بأن الحكومة تريد انتزاع الإدارة الرقابية لمجلس النواب وهي وسيلة تفعّل مهامه الرقابية على أعمال السلطة التنفيذية رغم ما عليها أصلاً من ملاحظات ؟ أم بسبب اتهام رئيس لجنة التحقيق البرلمانية في أملاك الدولة العامة والخاصة الذي وجهه لوزارة شؤون مجلسي الشورى والنواب بعرقلة عمل اللجنة للحيلولة دون حصولها على الوثائق والبيانات المطلوبة في مخالفة لما نص عليه الدستور واللائحة الداخلية لمجلس النواب؟ أم لأن معظم لجان التحقيق جاءت على خلفية قضايا عرفت بأنها قضايا رأي عام استحوذت على اهتمام ومتابعة المجتمع البحريني بأطيافه المختلفة، وصاحبتها زفات إعلامية، وتصريحات رنانة لمسؤولين أكدوا على جاهزيتهم في التعامل بكل جدية مع القضايا المحالة إلى لجان التحقيق، وتعهدوا بطمأنة الرأي العام والتزامهم بالكشف عن نتائج ما تتوصل إليه هذه اللجان؟ أم لأن القراءة المتأنية لواقع مصير معظم لجان التحقيق أصبح في حكم المجهول، والأهم أن حصيلة أعمال هذه اللجان لا شيء في أغلب الأحوال، أو مخيب للآمال في أحسن الأحوال بعدما قيل ونشر الشيء الكثير في أمر هذه اللجان، خاصة ممن كان يعنيهم الأمر والذين تبارزوا في التغزل بالمصلحة العامة، واستظلوا بها وبشعارات مصلحة الوطن ودواعي الشفافية لتبرير تشكيل هذه اللجان، وبشرونا بأن هذه اللجان اجتمعت وبحثت ودرست ونقبت وتابعت وتقصت، ولكن لم يقولوا لنا بأن هذه اللجان فقدت بوصلتها أو أنها دخلت في سبات عميق، وأعوص احاجي هذه اللجان أنها ظهرت فجأة واختفت فجأة دون أن يسأل أحد أين ذهبت هذه اللجان والى ماذا توصلت إذا كانت قد تشكلت من الأساس؟ في مشهد يجنح إلى العبث حقا ! .


وإذا كنا نفهم بأن لجان التحقيق هي معنية بالتوصل إلى كشف الحقائق عبر جميع الإجراءات والوسائل المشروعة، فإنها على صعيد العمل النيابي أداة رقابية يمارسها مجلس النواب على أعمال السلطة التنفيذية للكشف عن كافة الملابسات أو أوجه القصور والخلل في مسألة أو قضية ذات مصلحة عامة، كما أن لجان التحقيق في العرف البرلماني قد تكون بداية لاستجواب نيابي، وبات معلوم أن حصيلة دور الانعقاد الأول لمجلس النواب – برلمان ٢٠٠٢ – كان أربع لجان تحقيق نيابية بدأت بلجنة التحقيق في الأوضاع المالية للهيئتين العامتين لصندوق التقاعد والتأمينات الاجتماعية “هيئة التأمين الاجتماعي حالياً”، ثم بلجنة التحقيق في ملف التجنيس، مروراً بلجنة التحقيق في أوضاع خليج توبلي، ثم لجنة التحقيق في أسباب إرساء مناقصة تطوير أنظمة المعلومات بالجمارك على شركة كورية، وأخيراً لجنة التحقيق في انبعاث غاز المعامير، أما الدورة الحالية للبرلمان فقد شهدت حتى الآن ولادة إحدى عشرة لجنة تحقيق، بدأت بمهرجان ربيع الثقافة مروراً بلجنة تحقيق في فشوت الدولة وملكيتها، ولجنة تحقيق في أوضاع وزارة الصحة، ولجنة للتحقق في مجريات مشروع المرسى الصناعي، ولجنة تحقيق في أملاك الدولة والدفان، وأخرى لبحث أوجه الخلل في أوضاع وشؤون الكهرباء، ولجنة تحقيق قناة مهزة البحرية، ولجنة تحقيق في أوضاع المتقاعدين، ولجنة تحقيق في ملابسات تأجير أرض الحد بالمنطقة الصناعية، ولجنة تحقيق لاتخاذ الإجراءات المناسبة للتصدي للإساءة للرسول الكريم “ص”، واللافت أن كل لجان التحقيق كانت قد اشتكت أما من إعاقات مفتعلة، أو من انعدام تعاون الجهات التنفيذية وعدم الحصول على المعلومات الكافية، رغم أن الدستور في مادته “29” ألزم الوزراء وجميع موظفي الدولة تقديم الشهادات والوثائق والبيانات التي تطلب منهم لجان التحقيق النيابية .. !


ذلك بالنسبة للجان التحقيق النيابية، أما لجان التحقيق الأخرى التي شكلها وزراء ومسؤولون كبار على خلفية قضايا كانت قد استحوذت في الغالب على اهتمام الرأي العام فإن القائمة طويلة، ونحسب أن من أهمها لجنة التحقيق في مخالفات بالبلديات، ولجنة التحقيق بملابسات سرقة القطعة الأثرية، وقبل ذلك لجنة التحقيق في بعض التجاوزات التي حدثت في إدارة المرور، ولجنة التحقيق فيما أثير بشأن تجاوزات في إدارة الأوقاف الجعفرية، ثم لجنة التحقيق فيما عرف بقضية فساد وزارة الإسكان، إلى جانب لجان تحقيق أخرى أعلنت عدة وزارات عن تشكيلها كردة فعل على كارثة غرق سفينة الدانة لمعرفة أوجه قصور أجهزتها حيال هذه الكارثة في أسوأ صورة لتقاذف المسؤوليات تجاه نموذج صارخ للإهمال، ثم لجنة التحقيق في حريق عمارة القضيبية التي راح ضحيته عدد من العمال الأجانب قبل نحو عام، ولجنة التحقيق لتقصي أسباب تراجع البحرين في مؤشر مدركات الفساد الذي أصدرته في العام الماضي منظمة الشفافية الدولية، كما أن ذاكرة المرء لا تستطيع أن تنسى لجنة التحقيق التي شكلت للنظر في التجاوزات والاختلاسات وصور التحايل المذهلة التي هزت أحد البنوك التجارية قبل سنوات طويلة، وهي القضية التي شغلت الرأي العام لفترة طويلة من الوقت، والتي لا يعرف أحد حتى الآن ليس فقط مصير لجنة التحقيق التي شكلت للنظر في وقائع هذه القضية، بل مسار القضية برمتها بعد أن زعم من زعم بأنها حولت إلى القضاء.


تلك اللجان وما أنزل الله بها من سلطان، النيابية، والتي شكلتها بعض الجهات الرسمية ولم تخرج بالحد الأدنى من الممكن والمقبول والمعقول من النتائج ولم تفتح الأبواب الموصدة أمام أي حقائق رغم ما حفلت به المباريات الخطابية التي واكبت إطلاق هذه اللجان، وبات من الواضح أن تشكيل هذه اللجان جاء بهدف احتواء ردود الفعل أو الضغوط التي فرضت نفسها بعد انكشاف بعض مكامن الخلل والقصور والانحراف والفساد .


بقي أن نقول إنه لمؤسف أشد الأسف أن هناك من لا يزال يتعامل بنوايا مبيتة ومبررات لا منطق فيها مع دوافع تشكيل لجان التحقيق، ومع مجريات عمل هذه اللجان لجعلها مسلوبة من أي دور أو صلاحية، مراهناً على أن الزمن كفيل بأن ينسينا أمر هذه اللجان وأسباب تشكيلها، وهذا اعتقاد خاطئ جملة وتفصيلاً يحّول خيبة الأمل إلى قلق.. !!


وإذا أردنا أن نتجاوز ما صار معلوما بشأن تلك اللجان، فعلينا أن ندرك أن هذا الموضوع ما هو إلا صورة لواقع ينبغي أن ينصلح، ولا يجوز انتزاع المساحة الرقابية من النواب رغم ما عليها من ملاحظات، لذلك علينا أن نقول الأهم، وهو أن لجان التحقيق الذي أهدرت على مذابح الأنانيات والمساومات والمصالح، في عملية لا يسع المواطن حيالها إلا أن يشعر بأن ثمة من يريد أن يزدري بذكائه ويستخف بعقله، هذه اللجان فتحت الباب على مصراعيه لتساؤلات مشروعة ليس من حقيقة أمر تشكيل هذه اللجان التي من حق الرأي العام البحريني أن يعرف مصيرها، وليس من مصداقية النوايا التي وقفت وراء تشكيلها، وليس حول أسباب وأد هذه اللجان قبل أن تولد أو جعلها لجاناً صورية أريد بها تمييع القضايا التي انيطت بها لتكون لجان فقاقيع لا تفرز سوى الخيبة ولا تفعل شيئاً على الإطلاق سوى مضيعة الوقت والجهد والمال، وإنما حول ما إذا يمكن والحال هذه تعليل النفس بتقويم وتصويب أوضاعنا الخاطئة إذا كانت قيمة المساءلة والمحاسبة لا قيمة لها ولم تنل حظها من الاهتمام والحضور في ساحة الأداء العام والمسؤولية العامة، متى نبقى نغض النظر أو نتساهل أو نتستر على أي انحراف أو خطأ، أو إهمال سواء بقصد أو غير قصد ؟ هذه هي القضية الحيوية والجوهرية التي ينبغي أن تحتل صدارة قائمة أولويات من يتحدثون عن الأولويات وعن المصلحة العامة حتى نمضي بشكل صحيح في الطريق الصحيح..