المنشور

مسارات السياسات المذهبية ” 1 “

لن تستمر السياساتُ المذهبية مهيمنةً على الساحة المشرقية العربية خاصة، مع هذا الانفصال السياسي المتصاعد بين الأمتين العربية والفارسية، وتنامي الاتجاهات العلمانية الديمقرطية وفهم الشعوب للأديان.
 
 لقد حدث التداخلُ بين الأمتين العربية والفارسية في العصور الوسطى حين هيمن الوعي الديني الإسلامي، وصار التوحيدُ مظلةً لشعوب تمتدُ من الصين حتى أواسط افريقيا. فراحت الأمةُ الفارسية تبحثُ عن استقلالها، مثل بقية الشعوب والمناطق والبلدان، في داخل مظلة الوعي الديني الإسلامي. لكن كان الطريقُ طويلاً لتبلور هذا الوعي، الذي بدأ منذ الدعوة العباسية وقيادة خراسان إلى تكوين الإمبراطورية الجديدة، تحت راية أبي مسلم الخراساني والدعوة إلى الرضا من آل محمد، مروراً بالزيدية، فالإسماعيلية، ثم الإثني عشرية كتتويج لهذا المسار، حيث رفضت الأخيرةُ الأشكالَ المتطرفة من الصراع واتخذت الطابعَ السلمي التطوري المتدرج، مماثلة للمذاهب السنية المعتدلة لكن داخل إيران بصورة كبيرة وقوية.

ومَن يتخذ التدرجَ والعقلَ طريقين له في وعورة السياسة يبقى، وهكذا تلبستْ الدعوةُ القوميةُ الفارسية شكلَ المذهبِ الإثني عشري، وحينئذٍ لم يكن يظهر الفرقُ بين المذهبِ والقومية، مثلما أن المذاهبَ السنية توارتْ تحتها القوميةُ العربية والقومياتُ الأخرى في بلدان آسيا، وهو أمرٌ لن يتكشف مضمونه العميق إلا بتطورات اقتصادية واجتماعية كبيرة تضع هذه البلدان على سكة الثورة الصناعية. لكن القوميةَ العربية كانت أسرع في الخروج من أسر الإمبراطورية الدينية، التي كانت تركيةً محافظةً جامدة، في حين كانت فارس دولةً مستقلة ناهضة، لم تنكأ جروحَها سيطرةٌ دينية أجنبية وقتذاك، ومن هنا كان العربُ أقرب للعَلمانية من الفرس، ولعب تحالفُ العرب مع الغرب الاستعماري دوره في تصعيد هذا الانفكاك، الذي تجسدَ فيما بعد بحكوماتٍ نهضويةٍ عربيةٍ تابعة، خلقتْ بعضَ التطور المرحلي لكن لم تستطعْ خلقَ التحرر والديمقراطية، لتذبذبها في عمليات الإصلاح الجذرية وهي تحريرُ الفلاحين والنساء والعقل من السيطرات التقليدية. لكن الدعوات القومية العربية تأججتْ خاصة في المرحلة العسكرية، في حين ظلت إيران في حالةِ التباس بين الدين والقومية، وكانت قبضةُ رجالِ الدين على السلطة الاجتماعية قد تصاعدت خلال أربعة قرون من السيطرة شبه الكلية، ولم تكن السيطرة السياسية (الإمبراطورية الشاهنشاهية) سوى قشرة فوقية، انتهتْ مع قيام الدولة الدينية الكلية.

هيمنت حالةٌ إمبراطورية على الحياة السياسية الإيرانية الحاكمة خلال هذه العقود، وقد جعلتْ السياسةَ المذهبيةَ أداةً للحكم الشمولي الداخلي وللتغلغل الخارجي وهو أمر ترافق مع تفكك امبراطوريات أخرى (غربية وروسية).

 إن ظهورَ سياسةٍ قومية حديثة ديمقراطية في إيران بين الفرس خاصةً يعني حدوث قلاقل سياسية كبيرة داخلية، وتزعزع لسيطرة طهران على الإقاليم القومية المغايرة، ولم يفعل الوعي التحديثي الإيراني شيئاً كبيراً لردم الهوة بين الدين والحداثة، بين سيطرة المركز الفارسي وتمرد القوميات التي يتمظهرُ تمردُها عبر المذاهب السنية أو القومية العربية ( فيما يُسمى بإقليم عربستان )، فكانت الأقاليمُ الفقيرة مُلحقةً بالمركز المسيطر الذي لا يأبه بتطورها وحاجاتها، فتغدو المذاهبُ الإسلامية شكلاً لصراع اجتماعي متفاقم مع تنامي وعييها المذهبي والقومي.
 
 إن آمال القيادتين الدينية والسياسية بظهور إمبراطورية إيرانية يتجسد في تصاعد الأجهزة العسكرية وتضخم الأجهزة العليا وهي أمور تؤدي إلى تفاقم التناقضات الداخلية بين الفرس أنفسهم، وبينهم وبين الأقاليم، فلم توجد الصيغ الديمقراطية داخل المذهبية، ولم يعمل هذا الوعي التقليدي على مثل هذه العناصر، ومن هنا هذا الانفصال بين القمة الدينية والمذهبية والجمهور العريض الذي كان حدث الثورة ضد الشاه لحظة اتفاق من أجل تطوير معيشة الجماهير لا من أجل هيمنة عليا جديدة تواصل ذات السياسة الإمبراطورية. وإذا قلنا إن أساس هذا الجمهور الملتف على الحكم هو جمهورٌ ريفي متمسكٌ بقوة بعاداته فإن التغيير التحديثي يعني أزمة كبرى في تاريخ إيران الحالي.

وإذا كان الوعي المذهبي السني لم يشهد هو الآخر تطورات ديمقراطية كبيرة، واقتصرت على رواد هذه المذاهب في العصر الحديث، فإن القوى السياسية العربية الحديثة توجهت بعيداً في مضمار استيعاب الحداثة، وظهر ذلك على تطور الجماهير السنية وتقاربها مع الحداثة بصورة أكبر من بقية المذاهب، فلم تكن هناك هواجسُ التكتل الشديد ضد الحكومات، الذي يشبه (الغيتو)، ولكن كما رأينا فإن السياسات التحديثية العربية القومية وصلت إلى طريق مسدود، وكان اكتشاف النفط وتنامي الدخول في المناطق الصحراوية – والعراقية – الإيرانية، عاملاً في انقلاب المنطقة السياسي، حيث ابتعدت عن المركز المصري – السوري التحديثي، القومي، وهذا ما أدى إلى تفاقم الصراعات المذهبية وتحولها إلى هياج سياسي.

أخبار الخليج 20 سبتمبر 2008