المنشور

عالم‮ ‬يتغير

حتى حين قريب كان الكثيرون‮ ‬يتصرفون على أساس قناعتهم بالقدرة الكلية للولايات المتحدة،‮ ‬وكانوا‮ ‬يسخرون من تلك الآراء التي‮ ‬تقول أن الأحادية القطبية التي‮ ‬نشأت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي‮ ‬وانتهاء الحرب الباردة هي‮ ‬حال مؤقتة،‮ ‬لأن هيمنة الولايات المتحدة على المشهد الدولي‮ ‬هي‮ ‬أمر نهائي‮ ‬لا رجعة عنه،‮ ‬وعلى الجميع دخول بيت طاعتها مطأطئي‮ ‬الرؤوس‮.‬ وكان هؤلاء‮ ‬يرون أن القوة الاقتصادية للولايات المتحدة هي‮ ‬من القوة والصلابة والاستقرار بما لا‮ ‬يدع‮  ‬هامشاً‮ ‬بسيطاً‮ ‬لإمكان تعرضها لهزات،‮ ‬لكي‮ ‬لا نقول تصدعات‮.‬ ها نحن الآن شهود على مظهرين من مظاهر زيف وهشاشة هذا الاعتقاد‮:‬ المظهر الأول هو ما أظهرته حرب القوقاز الخاطفة بين روسيا وجورجيا،‮ ‬من أن الولايات المتحدة،‮ ‬والغرب عامةً،‮ ‬ليس هما وحدهما من‮ ‬يقرر مجريات الأمور في‮ ‬العالم،‮ ‬ورغم الهوان الذي‮ ‬تعرضت له روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي،‮ ‬ألا أنها ما زالت تختزن عوامل قوة جيو سياسية وبشرية واقتصادية تجعل منها قادرة على صد بعض المشاريع الغربية،‮ ‬خاصة منها تلك التي‮ ‬تمس أمنها القومي‮.‬ وطبيعي‮ ‬أن لمثل هذا التحرك انعكاساته الايجابية على مجمل الوضع الدولي،‮ ‬وليس أمراً‮ ‬غير ذي‮ ‬مغزى أن الصين وجمهوريات عدة في‮ ‬الكومنولث الروسي‮  ‬وقفت داعمةً‮ ‬للموقف الروسي‮ ‬الأخير،‮ ‬والأمر نفسه لمسناه في‮ ‬مزاج عام ساد الدول النامية وشعوبها المتضررة من الهيمنة الأمريكية‮.‬ والمدهش أن بعض‮  ‬من كانوا‮ ‬غلاة التنظير للعصر الأمريكي،‮ ‬تحولوا بقدرة قادر إلى مدافعين أشاوس عن التعددية القطبية،‮ ‬بالشكل الذي‮ ‬يطرح السؤال عن مدى صُدقية مواقف هؤلاء،‮ ‬رغم أن الصلابة التي‮ ‬تُظهرها روسيا اليوم لا تنطلق من مواقع أيديولوجية أو فكرية‮.‬ على الصعيد الاقتصادي‮ ‬جاء إفلاس واحد من أهم المصارف الأمريكية،‮ ‬مصرف ليمان بردرز،‮ ‬والانعكاسات الخطرة التي‮ ‬تركها على الاقتصاد الأمريكي،‮ ‬وعلى مجمل الاقتصاد العالمي،‮ ‬في‮ ‬عالم اليوم المعولم ليُظهر أن الجبروت الاقتصادي‮ ‬الأمريكي‮ ‬ليس في‮ ‬مأمن من الانتكاسات الكبرى،‮ ‬وتاريخ الرأسمالية على مدار قرون‮ ‬يُظهر أنها عرضة للأزمات الاقتصادية الدورية التي‮ ‬تلحق المزيد من الخراب بأوضاع قطاعات واسعة من الناس‮.‬ استمعت أمس للمحلل الاقتصادي‮ ‬اللبناني‮ ‬كمال حمدان‮ ‬يتحدث عن أن مفاعيل هذه الأزمة ليست من النوع الذي‮ ‬يمكن احتواءه بسرعة،‮ ‬وأنها‮ ‬يمكن أن تستمر لعامين أو أكثر،‮ ‬وأن هذه المفاعيل لن تنحصر داخل الولايات المتحدة وإنما ستمتد لتشمل العالم بأسره‮.‬ النهج المدمر للإدارة الأمريكية الحالية قاد العالم إلى المزيد من الخراب،‮ ‬ويريد الحزب الجمهوري‮ ‬صرف الأنظار عن مواقع الخلل الفادحة في‮ ‬أداء المحافظين الجدد باختيار ملكة جمال سابقة لمنصب نائب الرئيس في‮ ‬الانتخابات القادمة مهووسة بقضايا الإجهاض،‮ ‬لنقل المعركة من مجالها الحيوي‮ ‬المتصل بمصالح الناس إلى المنطقة الأخلاقية‮.‬ لكن مظاهر الأزمة هي‮ ‬من العمق والجدية بحيث لا تنحصر في‮ ‬هذه الأمور العرضية،‮ ‬وإنما في‮ ‬حقيقة أن عالم اليوم المعقد والمتناقض والمتضارب في‮ ‬المصالح لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يُقاد من مركز واحد إلى ما لانهاية،‮ ‬خاصةً‮ ‬وأن هذا المركز الذي‮ ‬يبدو قوياً‮ ‬من خارجه،‮ ‬يحمل في‮ ‬أحشائه عوامل هشاشة بينة نعيش آثارها تباعاً‮.‬
 
صحيفة الايام
18 سبتمبر 2008