المنشور

تطوير الإصلاحات العربية

بعد مرور مضي ما يقرب من عقد واحد على ظهور وتبني عدد من الدول العربية تجارب اصلاحية لانظمتها السياسية منذ اواخر تسعينيات القرن الماضي، وهي التجارب التي جاءت غداة زوال النظام العالمي الثنائي القطبية بانهيار الاتحاد السوفيتي وبروز النظام الدولي الجديد الاحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، بات لزاماً على هذه الدول العربية ان تقوم بمراجعات وتصحيحات وذلك لما اعتور مسيرة هذه التجارب خلال فترة السنوات العشر الماضية من اخفاقات وانتكاسات وتراجعات افقدت هذه المسيرات وشعاراتها الكثير من بريقها الذي امتازت به غداة اعلانها والتي بفضلها اكتسبت حينذاك رصيداً جماهيرياً ونالت سمعة دولية مرموقة.
بعض هذه التجارب الاصلاحية العربية التي ظهرت خلال هذه الفترة لم تكن جديدة بل هي تجديد لتجارب سابقة، أي أنها تطوير لتجارب ديمقراطية جديدة ذات جذور قديمة نسبياً (مصر والاردن والمغرب) لكن ينظر إليها المراقبون الآن بأنها تمر بتراجعات واخفاقات. وبعضها الآخر برز لاول مرة بشعارات براقة اطلقت العنان لتفاؤلات شعبية عارمة شاركتها فيها قوى المعارضة، وسرعان ما اختفت واكتسحتها موجة التراجعات (الربيع الديمقراطي في سوريا غداة رحيل حافظ الأسد ووراثة ابنه بشار السلطة منه). واجمالا يمكن القول ان جميع هذه التجارب الاصلاحية والتصحيحية معاً التي برزت خلال العقد المذكور تواجه جميعها الآن ازمات واشكالات جمة تعترض طريقها، وهي بحاجة آنية ملحة لاقالتها من عثرتها وخفوت بريقها، وخاصة في ظل تفاقم الاحباط والتململ الشعبي في جميع هذه الدول من طول تلك العثرة وتفاقم الازمات والمشكلات واطراد التراجعات. وكما هو معروف فإن سبباً رئيسياً لظهور بعض هذه التجارب العربية الجديدة ولتراجعها في ذات الوقت ايضاً انما يرتبط بمواقف وسياسات الولايات المتحدة وتبدلها فهي التي شجعت واحتضنت بداية تلك التجارب الاصلاحية العربية الجديدة وبخاصة التي ظهرت لاول مرة، عشية وغداة احداث سبتمبر 2001م، وذلك في سياق ما طرحته الادارة الامريكية من تخطيط ورسم للشرق الاوسط الجديد وتجفيف منابع الارهاب. حيث تبنت واشنطن سياسات وبرامج شكلية لاشاعة وبناء النظم الديمقراطية في المنطقة وتشجيع حليفاتها الدول المحافظة على تبني مشاريع اصلاحية الديمقراطية باعتبارها الطريق الوحيدة لاجتثاث وتجفيف منابع الارهاب وعلى اعتبار ان هذه المنابع لا تنشأ إلا في مناخات واجواء الاستبداد والانظمة الدكتاتورية والشمولية. ولكن سرعان ما غرقت امريكا في مستنقعي العراق وافغانستان وسرعان ما اتضح بلا رتوش نفاقها بالضغط على الانظمة الشمولية العربية لاجبارها على تبني المشاريع الاصلاحية او بمواصلة ضغوطها ومراقبتها لالتزام الدول العربية التي تبنت تلك المشاريع التي تبنتها بالايفاء بوعودها بالشعارات والبرامج الديمقراطية التي اعلنتها. وهذا مما أدى، الى جانب عوامل موضوعية وذاتية اخرى، لانتكاسة تلك المشاريع الاصلاحية العربية او تراجعها عن ترجمة وعودها وشعاراتها على ارض الواقع وذلك بعدما اكتشفت هي نفسها ايضاً أن الضغوط الامريكية الخجولة الناعمة غير جادة مادامت الادارة الامريكية ترى ان مصالحها الاستراتيجية في هذه الدول العربية مضمونة، وبالنظر لمخاوفها غير المعلنة من ان تؤدي هذه التجارب الاصلاحية ذاتها إذا ما تطورت وارتفع سقفها المحدد المرسوم مقدماً إلى وصول قوى راديكالية اسلامية غير مرغوب فيها بالانتخابات الى برلمانات واسعة الصلاحيات والسلطات في صناعة القرار السياسي ببلدانها، او حتى وصولها الى السلطة. مهما يكن، وبغض النظر عن كل الاعتبارات والظروف والعوامل الداخلية والخارجية التي أفضت الى تراجع وانتكاسات هذه التجارب الاصلاحية العربية، فقد بات لزاماً على دولها الاسراع ان لم يكن في تطوير هذه التجارب فعلى الأقل وقف التراجعات المتواصلة واعادة ما تم التراجع عنه من مكتسبات ومنجزات حققته تلك المشاريع لشعوبها وذلك قبل فوات الأوان، وبخاصة بالنظر لما تمر شعوب هذه الدول من ازمات خطيرة متفاقمة في مختلف المجالات، وعلى الاخص في المجال الاقتصادي والمعيشي. ولعل أبرز نقد ذاتي شجاع برز حتى الآن بين دول المشاريع الاصلاحية العربية يعترف بما شاب المسيرة الاصلاحية من قصور واخفاقات جاء على لسان جمال مبارك، نجل الرئيس المصري حسني مبارك الأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم وامين لجنة السياسات فيه، حيث طالب في كلمة له اواخر الشهر الفائت أمام معسكر شبابي في الاسكندرية بتقويم «عملية الاصلاح« التي تمت خلال الاعوام الماضية بكل مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مشدداً على زيادة الدور الاجتماعي للدولة، بما في ذلك زيادة مواردها للإنفاق على الخدمات الاجتماعية للمواطنين. وفي تقديرنا بأنه بقدر ما يحسب لهذه التجربة الاصلاحية العربية التي ترجع جذورها الى أواسط سبعينيات القرن الماضي، اعترافها الشجاع باخفاقاتها والحاجة الى مراجعة تصحيحية، فإنه اذا ما قدر لهذا الاعتراف ان يترجم الى سياسات تصحيحية فعلية فإن التجربة الاصلاحية المصرية ستكون حقاً جديرة عندئذ بالاقتداء من قبل سائر دول المشاريع الاصلاحية العربية.
 
صحيفة اخبار الخليج
17 سبتمبر 2008