المنشور

موزاييك القفقاس والاستحقاقات التاريخية

ورثت الثورة البلشفية في‮ ‬العقد الثاني‮ ‬من القرن المنصرم،‮ ‬عشية الحربين العالميتين الأولى والثانية،‮ ‬خارطة واسعة ممتدة بين جسد قارتين هما آسيا وأوروبا،‮ ‬فكان حلم الاورو‮ – ‬آسيا القيصري‮ ‬في‮ ‬مرحلة صراع الإمبراطوريات الأوروبية مستمرا،‮ ‬مرحلة ازدهارها الملموس وسقوطها،‮ ‬فكلما تراجعت امبراطورية أوروبية صعدت أخرى مكانها،‮ ‬محاولة أن ترث ما‮ ‬يمكن إرثه،‮ ‬وقد وجد الحلم القيصري‮ ‬توسعه الاستيطاني‮ ‬في‮ ‬الاتجاه الآسيوي،‮ ‬فشيد ملحقاته الغنية بالثروة والتضاريس والاثنيات المعقدة‮. ‬وقد شاركت شعوب تلك المناطق جيوش الإمبراطورية القيصرية كقوى محاربة ضروسة وقفت معها في‮ ‬كل حروبها والتحقت بها أينما كانت،‮ ‬حيث ظلت الإمبراطورية العثمانية تهددها من هذا الجزء،‮ ‬وقد وعدت القيصرية تلك الشعوب مزيدا من الاستقلال بوقوفها معها‮. ‬كان على تلك الشعوب وإقطاعها أن تختار بين قوة إمبراطوريتين،‮ ‬قدر تلك الشعوب والاثنيات الصغيرة والكبيرة منها‮.‬
‮ ‬وعلى مدى أكثر من قرنين شهدت تلك المناطق القفقاسية نزاعات عرقية كانت تنتهي‮ ‬بالمصالحات الودية بعد أن تهرق دماء لسنوات طويلة،‮ ‬فكانت القيصرية الملاذ الدائم والوسيط الاضطراري‮ ‬والقوة الحاسمة‮. ‬في‮ ‬تلك الملحقات المسيحية والإسلامية المختلطة حتى على مستوى منطقة صغيرة،‮ ‬تغنى الشعراء والروائيون الروس الكبار بأجمل القصائد والقصص والتراث الغزير،‮ ‬فكانت نتاجات تولستوي‮ ‬وبوشكين وغوغول وليرمنتوف وغيرهم،‮ ‬إرثا محفورا في‮ ‬ذاكرة ذلك النسيج الثقافي‮ ‬الاسيو‮ – ‬أوروبي،‮ ‬دون أن تذوب بالمطلق تلك التكوينات الثقافية واللغوية بين أقوام عرفت هجرات كبيرة طوال تاريخها،‮ ‬فكانت الجبال القفقاسية فاصلة،‮ ‬وبحرا قزوين والأسود حلقة اتصال وممرات مائية بين تلك اليابسة الشامخة‮. ‬وقامت الثورة البلشفية بإعادة قراءة وتنظيم ذلك الميراث القيصري،‮ ‬فكانت الثورة مخاضا كبيرا لشعوب تلك المنطقة الممتدة من بطرسبورغ‮ ‬المتفجرة حتى جبال داغستان المساندة بقوة للثورة برغم ارثها القومي‮ ‬والديني،‮ ‬فقد رأت شعوب تلك المنطقة الخاضعة لإرث إقطاعي‮ ‬أن خلاصها القومي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬يكمن في‮ ‬اللحاق بالثورة الفتية،‮ ‬التي‮ ‬رفعت شعارات وحدة التآخي‮ ‬والمساواة بين الشعوب والخلاص من عبودية الملحقات القيصرية‮. ‬تلك الخارطة تم تقسيمها وتنظيمها وتحديد ممراتها على أساس ولادة نظام عالمي‮ ‬جديد،‮ ‬يقّسم القارة الأوروبية إلى نظامين جديدين‮. ‬ونتيجة مبالغة السلطة السوفيتية الفتية بمنظورات أممية معقدة ونظرات ديمغرافية خاطئة تم ترتيب الحدود بشكل معقد،‮ ‬طالما أن الشعوب المتحدة في‮ ‬دولة جديدة نالت استقلالها الحديث بصورة مرضية،‮ ‬فالتحقت أعراق عدة في‮ ‬ظل ولادة جمهوريات متعددة،‮ ‬وبعضها نال حكمه الذاتي‮ ‬الموسع وبعضها نال حقوقا دستورية واسعة وحكما ذاتيا،‮ ‬يتناسب مع حجمها السكاني‮ ‬في‮ ‬إطار تلك الجمهوريات المتحدة‮. ‬ونتيجة قدرة الثورة على النجاح في‮ ‬الجزء الأوروبي‮ ‬الأكثر تقدما،‮ ‬انعكس هذا التأثير بقوة على الجزء الآسيوي‮ (‬الملحقات القيصرية‮)‬،‮ ‬بالرغم من القوى الأوروبية المناهضة للبلشفية،‮ ‬التي‮ ‬غذت تلك النعرات والجيوب والخلفيات العرقية بروح التمرد ضد السلطة الفتية‮.‬
‮ ‬حاولت القوى العظمى الامبريالية في‮ ‬القارة الأوروبية‮ – ‬على الدوام‮ – ‬تعكير صفو الدولة الجديدة وهز شجرتها بكل الوسائل،‮ ‬لكنها أخفقت،‮ ‬خاصة وان أوروبا انشغلت خلال الحربين بقضايا مختلفة،‮ ‬تم على اثر نتائجهما أيضا إعادة بسط وفتح الخرائط لكي‮ ‬يتم رسمها من جديد،‮ ‬فكان على الاتحاد السوفيتي‮ ‬المنتصر أن‮ ‬يتحول إلى تنين بجسد ورأس كبير،‮ ‬حدوده الجديدة دول البلطيق وجنوب شرق أوروبا وحدود البلقان انتهاءً‮ ‬ببحر قزوين،‮ ‬عبورا منها لجغرافيا القفقاس الممتدة حتى ممر البحر الأسود‮. ‬
وبسبب اقتناع شعوب تلك المناطق المتخلفة في‮ ‬القفقاس،‮ ‬أن عملية الالتحاق والارتباط بقوة أوروبية كروسيا الثورة تمنحهم ضمانات الحماية وامتيازات مواطنين لدولة قوية وجديدة،‮ ‬غير أن العقود السبعة للدولة السوفيتية ستؤسس لتكوينات سكانية متعددة وخليط تركيبة عرقية مختلفة،‮ ‬تميزت بحراكية سريعة وواسعة،‮ ‬فقد منحت تلك الفترة شعوب الاتحاد السوفيتي‮ ‬فرصا للانتقال والعمل والذوبان والتداخل والبقاء في‮ ‬مناطق،‮ ‬كانت فيها السمات العرقية تتضاءل أمام الروح الأممية،‮ ‬ما خلق مناخا إنسانيا واجتماعيا جديدا في‮ ‬تلك المناطق‮. ‬
ومع انهيار معمار الدولة السوفيتية كانت أعمدتها الملونة عرقيا وقوميا تتصدع،‮ ‬وتتخلى بشكل ملحوظ عن مركزية القومية الروسية الكبرى‮. ‬
في‮ ‬هذه الحقبة الصعبة كان التفكيك هدفا استراتيجيا إزاء تلك الدولة العظمى،‮  ‬فقد بدأت الحيتان الكبرى تضرب بمعاولها في‮ ‬ذلك التنين العجوز‮. ‬كان على روسيا القوية كوريث تاريخي،‮ ‬أن تحافظ على بقائها برغم أن خرائطها التي‮ ‬تشكلت منذ الحقبة التاريخية القيصرية قد أصابها التمزق،‮ ‬فكان على القوى الصاعدة،‮ ‬أو حتى المتآكلة كبريطانيا وفرنسا،‮ ‬أن تستنهض قواها كجزء من الناتو والمشروع الأوروبي‮ ‬الجديد‮ (‬الاتحاد الأوروبي‮) ‬في‮ ‬الاستعجال من اجل استعادة مواقع قديمة خسرتها هناك‮. ‬كان على روسيا الاتحادية أن تنظر مجددا في‮ ‬القارة الأوروبية،‮ ‬ولحالتها المنهارة،‮ ‬ولانقسام أوروبا الفقيرة والغنية،‮ ‬وبرغبة القوى الكبرى في‮ ‬عصر العولمة السيطرة على أنابيب النفط والثروة والممرات كاستراتيجية جديدة للقرن الواحد والعشرين،‮ ‬فقد كان القرن المنصرم‮ ‬يتميز بسيطرة أخطبوط المال على النفط بينما‮ ‬يسعى في‮ ‬القرن الواحد والعشرين للسيطرة على الممرات التي‮ ‬سيمر منها النفط والطاقة،‮ ‬ومن الضروري‮ ‬أن تكون للجميع خرائط مستحكمة،‮ ‬خرائط مائية ويابسة كاستحقاقات تاريخية،‮ ‬فطاولة التفاوض بحاجة إلى حديث الخرائط الجديدة لا‮ ‬غير،‮ ‬تحسمها على الأرض الدبابات والصواريخ والاستعراضات العسكرية والأمر الواقع،‮ ‬فكان على روسيا أن تبعث برسالتها لمن‮ ‬يهمهم الأمر،‮ ‬فلا‮ ‬يمكن القبول بصفقة بولندا ونشر الصواريخ بدون تغاضي‮ ‬الطرف عن جورجيا،‮ ‬فبقعة القوقاز الجغرافية‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تكون للمشروع الروسي‮ ‬التاريخي‮ ‬الآسيو‮ – ‬أوروبي‮. ‬فلكي‮ ‬تصبح الطاقة والعبور القادم ميسرا ما بين جسد آسيا وأوروبا،‮ ‬فقرب آسيا لأوروبا من هناك أهم من مناطق قديمة كالشرق الأوسط‮. ‬
مستقبل أوروبا في‮ ‬القرن الواحد والعشرين مفتاحه هذه المنطقة ولا‮ ‬يمكن لروسيا أن تغمض عينيها،‮ ‬فذلك حق تاريخي‮ ‬لها منذ القياصرة والثورة البلشفية‮. ‬ويدرك الصينيون واليابانيون وكل شعوب آسيا الوسطى تلك الحقيقة،‮ ‬مثلما تدرك المعارضة الجورجية أن رهان ساكشفيلي‮ ‬العسكري‮ ‬مجازفة خطيرة،‮ ‬ولعبة سياسية لم‮ ‬يحسن لعبها رغم التنبيه الأمريكي‮!! ‬

صحيفة الايام
16 سبتمبر 2008