المنشور

الدكتاتور ورفاهية المنفى


غنى الشارع الباكستاني قبل أسابيع “ارحل مشرف، ارحل” وقد تم تحقيق أمنيات الأغنية الباكستانية، وهي بالطبع أغنية كل البلدان والشعوب عندما تضيق ذرعا بالاستبداد والدكتاتوريات.
وإذا ما كانت الأغنية تحدد اسما في هذا القطر أو ذاك فإنها بالمطلق تشير نحو شخصية ملموسة تحسس الناس الأذى والقمع من ورائها، تحسس الشعب كل أشكال القهر والفساد . والشخصيات الدكتاتورية القادمة من البنية أو المؤسسة العسكرية لا تختلف عن شخصية استبدادية نبعت وولدت من بنية مدنية، فالمؤسسات الأمنية في بلدان نامية كثيرة، لا تختلف عن شخصية الدكتاتور إلا ببزتها المدنية .
قد يحدث أن يخلع الدكتاتور العسكري بزته بعد العملية الانقلابية الناجحة، ويعتلي منصة الخطابة ويمارس التدجيل أو يتم إحضار طاقم التلفاز والإذاعة وقسم الماكياج إلى مكتبه الجديد لكي يلقي بيانه الأول، والذي اعتدنا على سماعه لعقود في كل القارات، والتي وثقت تاريخها بالانقلابات الدموية، وسينصّب نفسه أولا بأنه المدافع الغيور عن الشعب، وبأنه جاء لينقذ الشعب من الدكتاتور وحكمه!!، وعلينا تقبل تلك النكتة السياسية الممجوجة، ثم يشير ثانيا بكل عنجهية، بأنه جاء لإنقاذ البلاد والعباد من شر الفساد، أما الهدف الثالث من انقلابه فهو تطهير كل تلك الشرذمة المرتبطة بالعملاء والأجانب وقطع دابر الأفعى، دون أن يشير إليهم حتى لا يحرج نفسه، إذ من المحتمل أن يخطأ ويضع نفسه في وضع بائس مستقبلا، فهناك أجانب عدة وإسطبلات كثيرة من خيول المستعمر التي يمتطيها في الكلية العسكرية .
أما المسألة الرابعة والمهمة هو وعده للشعب بأنه سيعيد بسرعة البلاد إلى وضعها الطبيعي بإلغاء حالة الطوارئ المؤقتة، والتي عادة ما تتحول إلى دائمة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، محاولا التأكيد – سيادة الجنرال الجديد – بأنه الحامي الفعلي للشرعية والدستور والديمقراطية، التي ستتم العودة إليها بأسرع ما يمكن وفي حالة استتباب الأمن في البلاد .
 من تبدل في نظام الحكم الاستبدادي هم الجنرالات الكثر بنياشينهم، ولكن وحده من لم يتبدل هو سائق السيارة وحلاقه وخياطه والمذيع، الذي اعتاد أن يتلقى البيانات في حالة إصابة الجنرال في وعكة صحية، وهي في الحقيقة إخفاء لعلة الجنرال، الذي لغته سيئة بدرجة لا تمكنه لفظ المفردات بصورة سليمة، ولكي لا يكتشف الشعب علة الجنرال الانقلابي، وضمور هالته وهيبته، خاصة وان حزمة النياشين التي أثقلت كتفه الأيسر باتت محنة جديدة على خاصرته، نتيجة اختلال التوازن العضوي، إلى جانب اختلالات عدة في نظام حكم مجهول الهوية والأهداف، ما عدا هدف استيلاء الحكم ومقعد السلطة .
الباكستانيون مثل غيرهم، غادرهم الجنرال مشرف ولا يعرفون من هو الجنرال القادم، فعادة الجيش يبعث برسائل مضللة، مدعيا انه سيكون حاميا للشرعية والدستور واستقرار البلاد، وهي بالطبع ابسط الأكاذيب، حيث يبدأ الجنرالات الجدد بالدعوة لاجتماع عاجل لاختيار من سيكون الرجل القادم من زمرة عسكرية متآمرة، تحلم بمواصلة نهب الثروة وتمرير المشاريع الفاسدة.
رحل مشرف وقد كان مثل كل المنهزمين يحتفظ في داخله ليس انكسار العسكري وحسب بل وقدرة الممثل على البكائية باسم الوطن والشعب، بمسحة لا تخلو من “الدمعات الحبيسة والصوت التمثيلي المبحوح” وان كانت مرارة الرحيل نحو منفى الرفاهية لا توازيها مناصب الدنيا، ففي جزر المنفى البعيدة وفي مثل تلك البلدان، يسهل متابعة الأرصدة في البنوك الخارجية من خلال “اللاب توب” ولكنها لا توازي مظهره وبهائه، وهو يلوّح للعالم بقوة على انه سيطارد الإرهاب ويهزمه شر هزيمة !
ما يمكننا قوله إن الدكتاتور رحل، ولكن ارثه وارث من سبقوه في تلك المؤسسة متجذر، ومن الصعب أن تكشف كل الأوراق السرية للثروة المنهوبة، ولتلك البطانة التي عبثت بالبلاد دون حسيب أو رقيب . مطلوب من أولئك الذين سيخلفون الجنرال أن يكشفوا النقاب عن ما قبل مرحلة مشرف وخلاله عن كل الأسرار الخفية في لعبة باكستانية كبيرة، تمتد خيوطها نحو جغرافيا المنطقة، وجغرافيا بلدان عظمى غرست في تلك المنطقة حكايات خرافية عن الأسرار النووية ومكافحة الإرهاب والحرب السوفيتية – الأفغانية، والتعاون الإيراني الباكستاني ما قبل الثورة وبعدها، وموزاييك الطلاق- الزواج الأفغاني الباكستاني على الحدود وبين القبائل، ومحنة التنمية والديمقراطية وقفازات المؤسسة العسكرية والأمنية . إن التنقيب والحفر في اركيولوجيا المنظومة السياسية الرسمية الباكستانية بحاجة إلى متخصصين من منظمات غير فاسدة ومحايدة ! لقد رحل الجنرال نحو منفى الرفاهية وسيعيش في رغد ونعيم “الأمراء” ولكن باكستان باقية وبائسة فمن يغني عليها الآن أغنية:
 
ألأيام 14 سبتمبر 2008