المنشور

العمالة الخليجية: التاريخ


لم يكن ثمة جذورٌ رأسمالية كبيرة لعلاقات الإنتاج في الخليج والجزيرة العربية، التي لم تعرفْ بعضاً من هذه العلاقات سوى في أسواق بعض المدن، ولهذا فإن العمل بالأجرة كان محدوداً، أما الطابع السائد فكان العمل بالقطيعة أو بالضمان، وهما شكلان من العمل في إنتاج الغوص والزراعة، يشكلان علاقات إقطاعية، بل حتى يقتربان من العبودية، بسبب تحولهما إلى ديون تغرقُ المنتجَ في التبعية الوجودية للمالك. وبهذا كانت علاقات الإنتاج الرأسمالية هامشية، ومقتصرةً على أشكال التوزيع البضائعي، التي نتجت من جذور التجارة العريقة في المنطقة وعبر التدخلات الرأسمالية الغربية التي جاءت من خلال سيطرة سياسية وفرضتْ أشكالاً خارجية لم تنبعْ من التطور الاقتصادي الداخلي العميق. وإذا كان العملُ بالأجرة محدوداً، وكان نشوءُ طبقة العمال على ضفاف بحر السكان الزراعيين والبحارة والبدو، لهذا لم تتشكل جذورٌ كبيرة للعلاقات الرأسمالية الحديثة، وهذا انعكس على العلاقات القانونية لوضع العاملين بالأجرة، فلم تكن لهم أوضاع إيجابية كبيرة، سواء بتحديد الأجرة وعلاقتها بالإنتاج ونموه وبأسعار المواد الضرورية لإعاشة العمال، أو بطابع التعليم لأولادهم، وبأوضاع مساكنهم الخ، وجاء ذلك سياسيا أي عبر وضع كل دولة على حدة وسياستها، ومدى إنتاجها النفطي، وجغرافيتها التي تحدد مواصلات العمل، وكم الفائض البشري ومصادره، وطبيعة علاقاته الاجتماعية، أي حجم البداوة، ومدى تطور المدن، وعادات العمل الخ..
وإذا كانت هذه البلدانُ تتسمُ بتدني طابع العمل، أي كونه مرتبطاً بمهن زراعية متنوعة متدهورة، فإن العمالةَ لديها توجهتْ خاصةً بعد تزايد أسعار النفط نحو المهن الإدارية والعسكرية، فتضخمت أجهزةُ الدول، وانفتحت لفئاتها العليا سبلُ التجارة وتوظيف مداخيلها لجلب مزيد من الدخل.
وبهذا فإن العلاقات الرأسمالية، أي نظم الاقتصاد الحر، لم تلعب الدور الكبير الحاسم في جلب العمالة الأجنبية، بل قامت بذلك أجهزةُ الدول وموظفوها المتنفذون خاصة، ومع هذا فقد كانت القطاعات الخاصة بدورها تواكب هذه العملية، وخاصة تلك التي ترضعُ من ثدي النفط. وبهذا فإن دمغَ سلعةِ النفط بالمضمون الإقطاعي، والشكلِ الرأسمالي الخارجي، ينسحبُ هنا على البضاعة البشرية؛ أي على قوى العمل المستوردة كذلك. فالموظفُ الكبير الذي يحصل على الدخل النفطي يقفزُ فوق العلاقات الاقتصادية البشرية العامة مستخدماً نفوذَهُ السياسي، وأساليبه الاقتصادية العتيقة، مثلما يتم تفريخ مثل هذه الطرائق الاقتصادية القديمة في توريد العمالة، وإسكانها، وتشكيل العلاقات معها، والتلاعب بأرزاقها.
إن ربَ العمل الأساسي هنا لا يختلفُ عن النوخذة القديم في السفينة، فهو لا يدري بشبكة العلاقات الاقتصادية الحديثة وقوانينها، وتدفعه الأرباحُ لاستيراد البشر، وتشغيلهم، بأي أشكال متاحة بين يديه، رغم المظاهر الحديثة التي تحيطُ به من أجهزة وموظفين. وتدفعه لتوظيف الدين في المعاملات واكتناز الأرباح وتهجيرها من ديار المسلمين كذلك.
لهذا تغدو السلطتان السياسية والدينية هما أكثر القوى الاجتماعية المستفيدة من الفائض النفطي، فتدعمان العلاقات التقليدية الماضوية وليست العلاقات الرأسمالية الحديثة. وتأتي السلطاتُ السياسيةُ الخليجية أول المستفيدين من هذه البضاعة السائلة، فيزداد امتلاكُها للأرض، أهم البضائع القديمة، لتتحول إلى عمارات وفنادق ومصايد الخ، ثم في مرحلة أخرى شركات وبنوك عالمية الخ. ومن هنا فإن العلاقات الرأسمالية الحديثة تبقى على الضفاف، فلا نجد لطبقات العمال المستوردة خاصة أي أثر تحولي إيجابي في تغيير العلاقات الاجتماعية الإقطاعية، وبسبب ذلك فان الرساميل المحلية المتكونة لا تستطيع أن تخترق تلك العلاقات التقليدية فتغير العائلة الأبوية أو مكانة المرأة المتدنية، أو أن توسع الثقافة العقلانية في العلوم والدين والأدب إلا بجهود خارقة، فالطبقتان الحديثتان التجار والرأسماليون من جهة، والعمال من جهة أخرى، تقعان على ضفاف الملكية السياسية الحاسمة للثروة النفطية، التي تنتجُ بدورهِا أشكالَ العلاقات الاجتماعية والقانونية. إن طابعَ النشأة الاجتماعية للبضاعة النفطية، وهي البضاعةُ المركزية، يطبعُ بطابعهِ في جريانِ ضخهِ للثروة، كلَ العلاقات الاقتصادية الأخرى، فيذيلُها لصالحه ومركزيته، لتغدو القوى التقليدية مهيمنةً على الثروة، وخاصة أيدي وأدمغة ملايين العمال الفقراء القادمين من وراء البحار، فتضعُ لهم الأجورَ والقوانينَ والمساكن حسبما تراهُ مناسباً، وعلينا أن نمضي لرؤية ذلك بالأدلةِ المتوافرة فيما يُسمى الأدب السياسي المحدود غير القادر على الحصول على المعلومات الكاملة عن هذه الظاهرات
.