المنشور

عالم الغيب والشهادة


كلما ازدادت حياة المدنِ العربية اضطراباً زاد غيبُها وضياعها. يجد بعضُ الفئات في هذا الاضطراب والضياع فرصةً للاستثمار، وإذ تفعل ذلك تزداد المدنُ اضطراباً لأن استغلاليين جدداً انضموا للقدامى فزادوا الحياة خراباً. إنها مدنٌ لا تحكمها عقليات عقلانية تخطيطية حاسبة لكل التطورات، بل هي تنمو بإرادات متصارعة كل منها يعمل لمصالحه الخاصة، فتحدث الاضطرابات نظراً لأن البلدان والناس صارت غنيمة لكل صياد. ومنذ أن كان الإنسان يصطادُ الوحوشَ في الصحراء بقوس وسهام يظهر له السحرةُ، يرقصون ويطلقون البخورَ ويشيرون إشاراتهم الغامضة التي تجعل الصيادين مأخوذين بهذه اللغة الغامضة ذات الدلالات الكثيرة، فيسقطون أمانيهم وأحلامَهم ومخاوفهم عليها.
يصبح السحرُ مهنةً لكن السحرة لا يشتغلون، فلا يخاطرون في حفر المناجم، ولا يتسلقون الأشجار، ولا يغوصون في البحار، فهم عاطلون عن العمل، لكن يغدون مركز السيطرة على الناس، ويصنعون حصالةً كبيرة تتجمعُ فيها نقودُ وعظام ودماء الناس.
كل الأمم أبعدت الدين عن الاستغلاليين التجاري والسياسي إلا أمة المسلمين. فميراث السحر كبير في حياتهم، ومعقلنو الدين لم يستطيعوا أن يتحدوا ويشكلوا ثقافة كبيرة مؤثرة.  أنظمة تقليدية نهمة في سلب الثروات، وهجمات من الأمم الأخرى وطيران عابر للقارات من قبل الشركات العالمية.
لقد توصل بعض كبار فلاسفة المسلمين إلى وضع كل من الدين والعلم في سياقه المعقول، فلديهم ان العالم فيه إلهٌ واحد، لكن العالم له قوانينه الموضوعية، فالنار لها أسباب، وارتفاع الأسعار له أسباب أخرى، والأنظمة لها قوانين سببية لتتشكل وتهلك، والدين له أسباب.
وبهذه التعليلات سد هؤلاء الفلاسفةُ البابَ في وجه السحر كي لا ينفذ في الإسلام. لكن السحرةَ الدينيين رفضوا ذلك، لأنهم لا يقرؤون في علوم الطبيعة ولا علوم المجتمع والإنسان، كما أن الجمهور لم يعط أي فرص ليتعلم، وإذا تعلم علموه الخرافة. هذا الرفض يجعلهم لا يفهمون ولا يتعلمون بل يعتمدون على المادة الدينية المحفوظة، الغارقة في عالم السحر، لكي تجعلهم أيديهم طويلة على روح (العبد) وحركته الاجتماعية وتعطله السياسي.
الأنظمة ورجال الدين يلتقون في مجتمعات لا مكان فيها للعلوم الموجهة للسياسة والاجتماع والثقافة. يلجأ الزعيم السياسي للبخور الديني بعد أن كشفت الأحداثُ فشلَ سياسته، وبدلاً من أن يعالج المسألة بموضوعية، وأن جماعتَه هجموا على موارد البلد مثل الهجوم على المريس(معجون التمر)، لكنه يروح باحثاً عن أسباب أخرى في الغيب. قال بعضُ شجعان الرأي لمروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية، وهو الملقب بالحمار لا لغبائه بل لنشاطه العسكري الذي لم يتوقف؛ بأن لجوءه للمنجمين في غير محله، وأن مشكلته تكمنُ في أسرته الكثيفة التي التهمت الخزينة منذ زمن بعيد. لقد صارت أعدادُ بني أمية أكثر من ستين ألفاً في ذلك الوقت، وكل منهم أمير وله قطائع، ويريد أن يحكم، وانتفض بنو أمية على الحمار وبعثروا سلطته قبل أن يستثمر ذلك بنو العباس فيزيلوها من المشرق
. وكم من قائد في العصر الحديث لجأ للدجل، حتى صارت الأمة كلها في مصح عقلي، وكلما كثرت الانتخابات كثر الجنون، وظهرت طوائف جديدة من المشعوذين والانتهازيين، وكم من مثقف استغل حاجات الناس الروحية ليتربع على كرسي السلطان، من دون أن يقدم شيئاً لمعالجة شؤونهم الاقتصادية السيئة، ليس لشيء غير الجهل الاقتصادي.
فهؤلاء قادة السياسة لا يفهمون شيئاً في الاقتصاد، وهم سحرة جدد، والأمة كلها ربما تجري وراءهم، ثم يتضح بأن خططهم أدت إلى كوارث اقتصادية للناس الذين رفعوهم. قادة لا يعرفون كيف تتشكل الأسعار والأجور، وكيف تهربُ الشركاتُ العامة الأموالَ، وكيف تلتهم الأسرُ المتنفذة السوقَ، وهو العالم القريب المحسوس، فكيف سيجري فهم عالم الدول الجديدة والعولمة وثورة التقنيات، لكنهم يتنطعون، بلا حزب عالم باحث، ولكنهم يمتلكون السحر ويستطيعون تحويل فشلهم على الغيب بتلك الكلمات التي كان يرددها الساحرُ في زمن الصيد. عالم السياسة وعالم الاقتصاد عالمان بالغا التعقيد وإذا كان كل شاب يحلم بملء جيوبه، وكل ملا يتصور أن جعجعته تصلح لقيادة شعب، وأن كل من أخذ بعض الدروس في علم الكلام ليفكك أسرار الشركات.

 
أخبار الخليج  12 سبتمبر 2008