المنشور

حدثان في ذكرى ” الفاتح من سبتمبر “


حفلت الذكرى التاسعة والثلاثون لذكرى الانقلاب العسكري الذي قاده الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي على النظام الملكي السابق في الأول من سبتمبر 1969م والمعروف رسميا في ليبيا بـ ” ثورة الفاتح “.. حفلت هذه الذكرى هذا العام بحدثين مفاجئين هامين من العيار الثقيل بالغي الأهمية وعظيمة المغزى والدلالات: الحدث الأول: وقد جاء عشية الاحتفال الليبي بالذكرى ويتمثل في إعلان رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلوسكوني أثناء قيامه بزيارة لليبيا وتوقيعه مع القذافي “اتفاق تعاون وشراكة وصداقة” عن تعهد روما بدفع خمسة مليارات دولار، تكفيرا وتعويضا عما ارتكبته بلاده من آثام وجرائم وخسائر بحق الشعب الليبي خلال فترة تعرضه للاستعمار الايطالي الذي دام ثلاثة عقود ونيف (1911 – 1942). حيث اعرب برلوسكوني باسمه وباسم الشعب الايطالي عن الاعتذار إلى ليبيا “عن الجراح الغائرة التي سببها الاستعمار الايطالي” لها. ويشمل اتفاق التعاون بين البلدين إزالة ألغام ترجع إلى عهد الاستعمار الايطالي لليبيا، وشق طريق سريع ساحليا من غرب ليبيا (على الحدود مع تونس) إلى شرقها (على الحدود مع مصر).
وبصرف النظر عما يقال عما تبتغيه ايطاليا من وراء هذا الاعتراف من تحقيق استثمارات يسيل لعابها عليها داخل ليبيا، وبصرف النظر أيضا عن زهادة المبلغ الذي ستدفعه ايطاليا والذي سيكون في شكل استثمارات ومساعدات في مشاريع تتعلق بالبنية التحتية، إلا أن هذا الاعتراف رسميا بجرائم الاستعمار الايطالي في ليبيا من قبل أعلى سلطة في ايطاليا هو حدث تاريخي بالغ الأهمية غير مسبوق عربيا بكل معنى الكلمة، يسجل تاريخيا لصالح النظام الليبي، باعتباره النظام العربي الوحيد الذي أجبر مستعمر بلاده على الاعتراف بجرائمه، والاعتذار عما اقترفه بحق شعبه من آثام وآلام.
وما كان ينبغي على كل الدول العربية التي تعرضت للغزو والحكم الاستعماري ونهبه ثرواتها والجرائم التي ارتكبها بحق أبناء هذه الشعوب طوال حقب مديدة أطول من الحقبة الاستعمارية الايطالية لتفوت هذه الفرصة الذهبية المتمثلة في الانجاز التاريخي الليبي لتتخذ منه تلك الدول العربية التي تعرضت للاستعمار قدوة وحافزا للمطالبة بحقوق شعوبها في الاعتذار والتعويض من قبل مستعمريها، وعلى الأخص الجزائر حيث كانت حقبة الاستعمار الفرنسي من أطول وأشرس الحقب الاستعمارية الغربية (أكثر من 130 عاما) والمغرب وتونس ومصر والسودان والصومال وجيبوتي واليمن وسوريا ولبنان ودول الخليج العربي، وصولا إلى فلسطين حيث جرائم الاحتلال الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني وبحق الشعوب العربية متواصلة منذ 60 عاما. ولا يمكن تحريك واستنهاض هذه المطالب المشروعة من الدول المستعمرة (بكسر الميم) بدون إطلاق حرية الضغوط الشعبية، ولعل منظمات وجمعيات حقوق الإنسان العربية وبتنسيقها وبتعاونها مع كبرى منظمات حقوق الإنسان العالمية المشهورة، تتحمل مسؤولية رئيسية تاريخية للاضطلاع بهذه المهمة الوطنية والإنسانية العالمية البالغة الأهمية انطلاقا من السابقة الايطالية – الليبية التي تحققت، لاسيما إن المجتمع الدولي والأمم المتحدة قد أدانا الحقبة الاستعمارية وطالبت هذه المنظمة الأخيرة بتصفية بقايا المستعمرات في مطلع ستينيات القرن الماضي فضلا عن الجرائم بحق الإنسانية ومنها جرائم الإبادة لا تسقط بالتقادم . 
الحدث الثاني: وهو على النقيض تماما من الحدث الأول وهو يتعلق بجريمة لا تسقط أيضا بالتقادم، ويتمثل في إعلان القضاء اللبناني رسميا أيضا اتهامه النظام الليبي ومسؤولين ليبيين باختطاف مؤسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان الإمام موسى الصدر ورفيقيه محمد يعقوب والصحفي عباس بدرالدين عام 1978م أثناء حضورهما احتفالات”الفاتح” من سبتمبر بليبيا. كما اصدر المحقق العدلي القاضي سميح الحاج مذكرات إلقاء قبض بحق مجموعة من رجالات النظام الليبي وإحالتهم على المجلس العدلي في لبنان لمحاكمتهم. وبغض النظر عن ملابسات هذه القضية والظروف الغامضة لاختفاء الإمام الصدر ورفيقيه في ليبيا بعدما أخلت ايطاليا مسؤوليتها عن الاختفاء بالبراهين القاطعة بعدم قدومهم إلى روما، وبغض النظر أيضا عن مدى حقيقة تورط القيادة الليبية في جريمة هذا التغييب المأساوي الغامض للإمام الصدر ورفيقيه، رغم إن العالم بأسره يعلم اليوم الجهة المتورطة في الجريمة ، فإن العبرة في إعلان القضاء اللبناني إنما تتمثل في اهتمام الدولة اللبنانية بسلطاتها الثلاث، وعلى الأخص القضائية بمتابعة محنة ومأساة هذه الشخصية اللبنانية الفذة رغم مرور نحو 30 عاما على وقوعها وعدم طي ملفها ضد مجهول. هذا على الرغم من كل ما مر ويمر به لبنان من أحداث ومحن معقدة جسام.
وما كان لموقف الدولة اللبنانية بقيادتها وسلطاتها الثلاث أن يتحقق بصدد قضية مأساة الإمام الصدر ورفيقيه لولا أن هذه الدولة هي دولة تعددية توافقية نظامها دستوري ديمقراطي تعددي دينيا وسياسيا، فكم من مشايخ ورجال دين وفكر وسياسة وصحافة وثقافة غيبهم الموت أو الاغتيال غدرا في السجون العربية أو في ظروف غامضة في ظل أنظمة شمولية وطوى النسيان جرائم اغتيالاتهم بل طويت ملفات قضاياهم واستسلم ذووهم لقدرهم المفروض. وليبيا التي دفعت أرقاما خيالية بالمليارات ابتزها الغرب منها تعويضا عن تفجير طائرة لوكيربي، وليبيا التي حققت انجازا تاريخيا عربيا غير مسبوق بإجبار ايطاليا على الاعتراف بجرائمها الاستعمارية تجاهها، ليبيا هذه تستطيع بكل شجاعة إما إجلاء حقيقة سر غموض اختفاء الإمام الصدر ورفيقيه على أراضيها حيث كانوا ضيوفا على قيادتها، ، وإما تعويض لبنان وأهل المفقودين الثلاثة المغيبين إذا ما أصابهم مكروه، لا سمح الله، أنهى حيواتهم ، والاعتذار رسميا للبنان ولذويهم ومن ثم يمكن تأسيسا على ذلك فقط فتح صفحة ليبية – لبنانية جديدة من العلاقات بين البلدين، والقول عندئد “عفا الله عما سلف”.
فهل تقدم ليبيا على هذه الخطوة الشجاعة مع شقيقتها لبنان الأقرب والأولى بالمعروف من خطواتها الشجاعة مع الغرب لطي صفحة الماضي الأليم؟!



أخبار الخليج 9 سبتمبر 2008