المنشور

الرئاسة اللبنانية والعلمانية


استطاعت تركيا أن تتخطى فسيفساء المذاهب السياسية الدينية باعتماد العَلمانية في نظام الدولة بطريقة عسكرية دكتاتورية، لكن كان وجود شخصية مثل كمال أتاتورك وطنية عامة ونهضوية عاملا مهما في تقدم تركيا على طريق الحداثة. وإذا كانت الأوروبة الشكلانية هي دفعة عاطفية أولى لإيجاد الحداثة فإنها في تركيا دفعت من خلال تطور القطاع الخاص الذي أحدث نقلة في بلد ريفي متخلف. ولعل لبنان هو أقرب بلد عربي لتكوين حداثة مماثلة تبعد التدخلات المذهبية والدينية السياسية، التي تجير الفلاحين والعاملين الحرفيين من أجل زعامات إقطاعية غير قادرة على التصنيع والتحديث الوطنيين.
إن القوى التقليدية الدينية عاجزة عن تطوير طوائفها لمتطلبات الحداثة المعاصرة، وهي في ذات الوقت لا تريد من هؤلاء الأتباع أن يخرجوا عن طاعتها، وهي تستخدمهم في أعمالها السياسية التي تؤدي إلى التصادم مع القوى الأخرى وتؤدي إلى الارتباط مع دول مماثلة في هياكلها الاستبدادية المحافظة، أو إلى الصراع مع دول أخرى تجاوزت مثل هذه الهياكل. وقد أخذ الجيش اللبناني يلعب دورا توحيديا وطنيا، رغم بنائه الحاشد بالطوائف، وكان دورا أقرب منه إلى جيش حقيقي يزاول واجبه الأول على الحدود وليس في قلب المدن يقوم بالقمع فيها ضد عناصر فوضوية مدسوسة. وقد كانت هذه العمليات جزءا من جر الجيش إلى مهمات أخرى، وتعطيل دوره الدفاعي الوطني، لكنه تغلب على هذه العقبة بعد جهد طويل نظرا إلى استخدام المندسين حرب العصابات في مناطق سكنية. وكذلك تعطل اختيار رئيس الجمهورية المتفق عليه من أغلب الكتل المذهبية والدينية السياسية، التي تمثل واقع العصور الوسطى بكل إرثها المحافظ، مع حداثة شكلانية مظهرية، وكان هذا يمثل مظهرا من تأخر التسويات الإقليمية والوطنية، وحين بدا أن الحكومة السورية تقوم بمفاوضات مع إسرائيل بعد كل جمل الرفض والتحدي، أيقن العديد من الفرقاء اللبنانيين المرتبطين بسوريا أن الخريطة السياسية الإقليمية تتغير بأسرع مما تخيلوا، وبهذا فإن تسوية وطنية لبنانية أخذت تنمو بتثاقل كبير وبمساومات مريرة على الكراسي. لقد مضت القوى المذهبية والدينية إلى وحدة وطنية مظهرية، ليس فيها عمق استراتيجي ولا ذوبان في برنامج نهضوي موحد أو في ثقافة سياسية مشتركة، وبدت الحكومة ممثلة بقوة للاقطاعات المسيطرة على الجغرافيا اللبنانية، أكثر منها مشروعا وطنيا. في حين توارى الجيش وراء لافتة وطنية غامضة، معتمدا على الصمت كوسيلة لإخفاء توجهاته التقليدية، الغائرة في جسمه العسكري – البوليسي. ولكي يتحول الجيش اللبناني إلى جيشٍ وطني يلزمه أن ينهي هذا الدور المزدوج دور الجيش – البوليس، وإنهاء هذا الدور يتطلب إنهاء الازدواجية بين اقطاعيات لبنان، وخاصة الاقطاعيات العسكرية، وهو أمر يبدو مستحيلا في ظل موازين القوى في المنطقة، التي لا تريد لبنان دولة موحدة ذات جيش واحد. ولهذا فإن هذه التوجهات التحديثية الوطنية تتطلب رئاسة علمانية تخرج من دوائر الطوائف، وتبثُ ثقافةً وطنية عصرية، تعلي المواطنة، وهو أمر يستطيع أن يقوم به الرئيس اللبناني والجيش، بل هو مهمة حياة وظيفية لهما. ولهذا فإن ردع الخطابات الطائفية وهزيمتها فكريا هو الأمر الأساسي للعلمانية اللبنانية العسكرية، لكي تتحول إلى الجيش الوحيد للبنانيين. ولهذا فإن خطوات الرئيس اللبناني لتطبيع الأوضاع مع سوريا، ستظل مرهونة بقدرته على علمنة لبنان، على انتزاع مؤسستي الرئاسة والجيش من المستنقع الطائفي، وجعلهما رمزين للبنان موحد، وقوي، وليس فيه عدة جيوش. وهذا يتطلب توحيد قوى الفئات الوسطى، بجعل مؤسسة رئاسة الوزراء تغدو معبرة عن قوى رجال الأعمال الوطنيين والقوى الشعبية، الذين يقدمون خدمات العمل والتصنيع والتعمير لكل المناطق اللبنانية. لقد كان لبنان هو وليد التطورات الإيجابية في الدكتاتورية الشرقية، ثم هو يتفجر بتصاعد سلبياتها، وبعجز الديمقراطيات الغربية عن تجاوز هيمنتها عليه. والآن هو زمن دكتاتوريات مذهبية خاصة في طوائف الإماميين والحنابلة. لكن هناك طيف أولي من القيادات المذهبية والدينية المقتربة من العلمانية الديمقراطية، فالمسيحيون العروبيون والديمقراطيون والدروز وأهل السنة التحديثيون واليسار الديمقراطي، تشكل أساسا لجبهة وطنية معاصرة ديمقراطية، ومن دون الاعتماد على هذه الجبهة فإن الرئاسة اللبنانية وقيادة الجيش تقود أنفسهما إلى متاهة سياسية. وللأسف فإن قوى المحافظين (التوجهات السياسية الإثناعشرية والعلوية والحنبلية والقومية الشمولية) ترتبط بمناطق متخلفة وبقوى حكومية لا تقبل التحديث ومراجعة تاريخها السياسي والفقهي، وترتبط بسياسة عسكرية مستقلة عن الحكم أو بمغامرات إرهابية تعرض كل شيء للخطر. وليس ثمة اختلاف جوهري بين السياستين، حين يكون (الإمام) سلطة فوق الدولة والمؤسسات الأهلية، وهو أمر يعود كما قلنا إلى العصور الوسطى، ويخترق موضوعية التطور الوطني. إن العلمانية العربية لا تنفصل عن منجزات الدينين الإسلامي والمسيحي وتطورات العصر الديمقراطية، فهي لا تتخلى عن جذورها، لكنها لا تقبل بتحكم المؤسسات الدينية في خيارها الوطني المستقل. لا تستطيع أن تكون المؤسسات العسكرية الحاضن الفكري لتطورات الوعي الديمقراطي بمختلف تلاوينه، فهي مؤسسات سلب وإخفاء للتوجهات، ولكن الخيار الوحيد يبدأ منها، وذلك هو مأزق العلمانية في دول الشرق. لقد راوح رؤساء عرب كثيرون في دائرة المناورات السياسية بين القوى المذهبية والدينية وضربوا بعضها بعضا لكي يتفردوا بالسلطة، لكن كانت هذه سياسة كوارث لا سياسة تحديث وديمقراطية.



أخبار الخليج  5 سبتمبر 2008