المنشور

ناصر الغريب.. وجمال المظلوم

بدا الخطيب الحسيني وكأنه انتقى كلماته بغاية الدقة في خطبة الوداع على قبر الفقيد جمال حبيب عمران. كان ذلك يوم الجمعة الماضي، والثالث بعد أن أسلم جمال الروح إلى باريها يوم الأربعاء 27 أغسطس/ آب .2008 بدأ الخطبة مناديا بالصفتين اللتين عرف بهما الإمام أبوعبدالله الحسين: «يا غريب.. يا مظلوم». والمسجى في قبره أمام حشد أقاربه ورفاقه وأصدقائه هو أيضا غريب ومظلوم هذا العصر.
الكثيرون ممن تعاملوا مع هذا المناضل خارج البحرين لن يعرفوه من اسمه الحقيقي، ولابد من التذكير بأنه «ناصر عمر». وهذا هو الاسم النضالي المستعار الذي حمله في المنفى. استعاد اسمه الحقيقي بعد عودته الأولى والقصيرة جدا ليحمله في جولة النفي الثانية إلى دولة الإمارات الشقيقة، حيث عمل لسنوات قبل أن يعود إلى البحرين ثانية مع بداية الإصلاحات العام .2000
هل تذكرتم ناصر، ذلك الإنسان المتواضع الذي بالكاد يسمع صوته، لكنه يسجل حضوره أينما حل بنشاطه الدؤوب وعمله المتفاني. لا يتردد في تنفيذ كل المهام من أبسطها إلى أشدها تعقيدا وخطورة. قد لا تراه في صدارة الفعاليات، لكن نجاحها يكون من صنع يده. ومن على راحة يده نثرت على العالم كله أدبيات وبيانات الحزب والشبيبة والمرأة والعمل الوطني وحقوق الإنسان والسلم والتضامن وكل أشكال العمل النضالي البحريني في الخارج. وفي سبيل ذلك كثيرا ما تعرض لمواقف غاية في الصعوبة. يعشق العمل لدرجة أنه يتناول طعامه واقفا وعلى عجل. ولما سئل مرة: «ناصر، ألا تتذوق طعامك؟»، أجاب مازحا، جادا: «إنه بالنسبة لي وقود من أجل الشغل ليس إلا».
وبقدر ما كان جمال – ناصر قاسيا على نفسه في كل شيء تقريبا، كان رحيما كالأم تجاه رفاقه، خصوصا في أوقات الشدة. ولست مبالغا في ذلك. لقد رمتني الأقدار في أحد المعتقلات العربية. وبين خليط من المجرمين التقليديين و«مجرمين» مناضلين من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، كنت محسودا بنوعية الطعام الذي ظنوا أن أمي تحمله إلي بين وقت وآخر. والحقيقة أن جمال – ناصر هو الذي كان يحضر الطعام بيده ويحضره إلي، ومعه أخبار عما يدور خارج جدراني الأربعة. كان يملك من الدماثة والمرونة ما يجعله ينجح في معظم الحالات في التحايل والتمويه من أجل الوصول إلى حيث يعجز الآخرون عادة. ومع ذلك فقد انقطع حبل الوصل معه وحرمت من نعمه بعد أن غيبتني الديمقراطية- الوطنية إلى مكان آخر لم يستطع «ناصر» الوصول إليه.
كم استقبل ناصر من ضحايا فترة غياب الديمقراطية وودعهم إلى حيث العلاج في مختلف بلدان العالم. ورغم أن صحته لم تساعده على مواصلة الدراسة الجامعية إلا أنه ساعد الكثير من الطلبة المستجدين ليعبروا الطريق إلى جامعات العالم فأصبحوا الآن اختصاصيين يخدمون الوطن في مختلف المجالات. كم من الأفكار الخام قدمها جمال لتصبح نواة لأعمال جدية فيما بعد. بعد أن ينهك عمل النهار جسده النحيل يستريح شطرا من الليل إلى طاولته ليكتب ويكتب أشياء لا يُطلع الآخرين إلا على بعضها ليجد الآخرون فيها صيدا لإنتاج نضالي لاحق.
ذلك هو ناصر الغريب. أما جمال المظلوم فهو الذي عاد إلى وطنه بعد بدء الإصلاح، لكن الإصلاح لم يتعرف عليه من قريب أو بعيد. لم يحصل على عمل لائق أو أي تعويض، وظل يكابد ضنك العيش غريبا ومظلوما في وطنه حتى أصبح فريسة سهلة للمرض الذي أدخله المستشفى مرارا. لم يفرد له المكان اللائق حتى بين صفوف مناضلي حقوق الإنسان وهو الحقل الذي عمل فيه لسنوات. لكنه ظل يدافع عن هذه الحقوق بأعلى صوته. وبعيدا عن الأضواء حمل بصمت بعضا من قضايا العائدين وإن كان أسوأهم وضعا. قبل يومين فقط من وفاته حمل رسالة من أحدهم إلى البرلمان، لكنه لم ينتظر الجواب فرحل. عمل جاهدا من أجل إقرار المصالحة الوطنية وفق مبادئ العدالة والإنصاف، لكنه مات والدولة لا تزال مترددة عن الإقدام على هذا المشروع، وهو يطالبها بتحقيق هذه النقلة الحضارية في العلاقة بين الدولة والمجتمع. وجمال هو ابن المنبر الديمقراطي التقدمي وأحد أعضائه المؤسسين وحامل أفكاره إلى كل الناس البسطاء الذين يحتك بهم على الدوام ويعمل معهم على مختلف المبادرات.
مع ابنتنا حصة زرنا جمال قبل أشهر في بيته المتهالك الذي يتكدس فيه مع والدته وأخوته. جمال نفخ من روحه جمالا أخفى كل عيوب ذلك البيت الذي اصطفت في كل حواشيه أصص نباتات مختلفة تشعرك وكأنك في حديقة. أهدى جمال لحصة أصيصا بعد أن انتزع منها تعهدا بالاهتمام به. ورغم أن حصة لم تزر سوريا إلا أنها قارنت المنزل بما شاهدته في المسلسلات السورية وصارت تتحدث عن البيت «الدمشقي» الذي أحضرت منه هذه الزرعة. كما حلا لها باستمرار أن تقلد بعذوبة صوت جمال الناعم الذي سمعته لمرة هي الأولى والأخيرة.
وعندما كنا في السيارة عائدين إلى البيت تلقينا وزوجتي الخبر المؤلم. تلقفتنا حصة في الصالة فسألتها أمها: «هل تذكرين عمي أبو خلود؟ بتلقائية فتحت فمها لتقلده. لم نمهلها: عمي جمال توفي قبل قليل. تسمرت حصة في مكانها ولم تسألنا عما أعددناه لعيد ميلادها الثالث عشر يوم السبت. بدت وكأنها كانت تعرفه طيلة تلك السنوات. هو هكذا جمال يغزو قلوب الصغار والكبار بنفس السهولة.
قصة عائد آخر دفع ثمن عودته ما تبقى من حياته فمات قبل الأوان بعد أن نسته الدولة ونسيه الإصلاح. وعائدون كثيرون لايزالون يعانون آثار غربتهم التي انسحبت على حياتهم وحياة أطفالهم بعد العودة. الإصلاح، المصالحة الوطنية، العدل والإنصاف كلمات تكاد تفقد معانيها بالنسبة لكثير من العائدين إن لم تتجسد واقعا. والدولة لاتزال مطالبة بالوفاء لحميد عواجي وجمال عمران وللأحياء من العائدين المكابدين.
أما رفاق جمال وحاملوا مُثله وقيمه النضالية فمطالبون بإحياء ذكراه العطرة وفاء لكل ما قدمه، بما في ذلك حياته. 


 


jalil-sora-site.jpg