المنشور

أسباب سلبية الشعوب من السياسة

تتفاقم سلبية الشعوب العربية من السياسة بسبب عدم قدرتها على فهم الأفكار السياسية المسيطرة، والقبول بها، فهي تجدها لا تتصل بالعيش، وهي في أغلبيتها لا تهتم سوى بالعيش. كانت في زمان ما حين كانت أقرب للرومانسية القومية تصدق وتنفعل بالشعارات، أما الآن وخاصة في المدن فهي تتفرج وتصمت ولا تنزل إلى الشوارع كما كانت تفعل سابقاً وبأشكال هائلة. لقد تجرعتْ خيباتٍ كثيرةً وتهاوت أمامها رموزٌ كبيرةٌ ورأتْ العدو هو الأقوى وهو الذي يفرضُ شروطَهُ ويتقدم في الحياة، وأبطال الشعوب نفسها يتساقطون وينهزمون ويخلون الساحة لطائفيين لديهم بعض الحماس في الجمهور الريفي الذي دخل ساحة السياسة العربية متأخراً ولم يتجرع بعد الهزائم التي سيتجرعها بعد سقوط نظامه العتيد ونموذجه المنبهر به لأنه بلا تجارب حديثة.
يمتلك هذا الجمهورُ السلبي مع هذا كلهِ حساً غريزياً صائباً وهو أحساسه بفشلِ كل الطرق السياسية العربية وكونها مصالح لقوى سائدة تتعارك على مصالحها. وهو يتمنى في خطه الأخير للدفاع عن حياته المعيشية ألا تلجأ القوى المتسيدة على الساحة إلى الحروب، وقد رأينا في أشرطة الأخبار كيف يعبر هذا الجمهور الذي تم اختياره من قبل المحطات عن رغبته في العيش بسلام، وعدم استخدام حاراته للقصف المتبادل، ثم نرى الضحايا من هذا الجمهور: جنازات تصرخ فيها نساء بأسى، هاربون يحملون أغراضهم البسيطة المتواضعة ذاهبين إلى ملاجئ آمنة، الحارات التي شهدت النزاع وهي تتحول إلى خرائب. لم تستطع أي جماعة سياسية أو دولة أن تحشدَ شعباً مؤيداً وراءها، وترى في العواصم العربية الكبرى التي كانت مسرحاً لمظاهرات عاصفة قبل عقود وهي تكاد تخلو من البشر إذا قامت بعض الأحزاب الجديدة بتنظيم اعتصام يتعلق بأوضاع السياسة الكبرى كرفض انتخابات مزورة أو تنديد برئيس أو رفض سياسة معلنة مهمة الخ. إن الجمهور الكثيف هنا يظل في بيوته أو في المقاهي يشاهد الحدث السياسي الخطير وهو يدخن الشيشة أو يلعب الدومينو. من المؤكد أن الأنظمة استطاعت خلال عقود الشمولية أن ترفض سطوة الجمهور وتخترق الأحزاب وترهب الجمهور وأعطت الفرصة للجماعات الدينية كي تزدهر، لكن مع هذا فالجمهور لديه حسٌ سياسي مرهف، وقد جعل حياته المعيشية هي مصدر التأييد والرفض للسياسات، فمن استطاع تطوير هذه الحياة المعيشية فهو المناضل والمحبوب، أما من جمدها بل أرجعها للوراء فهو المكروه. ولهذا تجد ان الدول والحكومات تركز في هذا الجانب التعبوي، وأنها القادرة فقط على تغيير النمط المعيشي للناس، ويحدث أحياناً ذلك بتشدق كبير، لكن الحس الشعبي يحدد ذلك بالممارسة كذلك، أي بصدق هذه الوعود وتمكن الحكومات من الوصول للسيطرة على الأجور والأسعار والتسليف والقروض. لا تجد الأحزاب في هذا كله سوى الكلام والشعارات والتثقيف وبهذا فهي متفرجة أخرى على الحياة، لكن في مقاعد النخبة البرجوازية الصغيرة ذات العيش المعقول أو الجيد، وهي لا تحترق بنيران المصانع وأسفلت الشوارع وتجد وقتاً لصناعة الكلام. كل شيء لدى الجماهير العربية يتعلق بمدى مساعدة المعدة أو دغدغة الحواس التعبة بعد عمل مرهق بفيلم ضاحك أو أغنية أو مشروب مريح أو دخان مخدر. يدرك الجمهور بحسه ان ليس ثمة قوة سياسية قادرة على فعل المعجزات التي آمن بها في فترة شبابه السياسي الرومانسي، وهو قد انتج شباباً أكثر بعداً عن السياسة منه، وأكثر ذاتية وأنانية، وقد جعلتهم ظروف الحياة الصعبة وصراعاتها يشمون بقوة أين المصلحة الذاتية ويمضون إليها. المتطرفون الذين لايزالون يؤمنون بتحقيق الجنة على الأرض والذين لجأوا للوعي الديني، فهو المظلة الفكرية التي يمكن أن تزدهر في ظلها مثل هذه العجائب، يمضون في طريق التضحية إلى اقصى مداها ولكن بشكل عنيف رهيب وكأنهم ليسوا من جنس هذا الزمان، وكأنهم غير خارجين من هذه الجماهير السلبية ولهذا فهم ينفجرون لحظة مثل صواريخ الألعاب النارية ثم يختفون لم يتركوا سوى المشاهد الرهيبة من خراب في مخيم أو نيران في حارة. ويشير الجمهورُ السلبي إلى قادة الأحزاب وشخوص الشعراء العظام ومنتجي الكتب المفكرين وأبطال المسرح والأغاني وكيف قبلوا في سنوات أعمارهم الأخيرة وهم قاب قوسين أو أدنى من الموت والحساب، بفتات تافه تلقيه عليهم السلطات والقوى المتنفذة، كان معروضاً عليهم هو نفسه وأكثر منه في شبابهم ولم يقبلوه، وراحوا في رحلات طويلة من العذاب من أجل القيم والأخلاق العظيمة والجهاد، ثم إذا هم في أواخر رحلاتهم لا يرتفعون إلى الذرى بل إلى حضيض الأرض، وقد أصيبوا بالخرف السياسي والأدبي من إعطائهم رواتب مجزية وبيت وأرض ومنافع أخرى.. وأخطر السلبيين هم النساء اللواتي يرقبن الحياة من دواخل بيوتهن، حيث نمط من السلبية أكبر وأحفل بالتخلف، ولهذا يشجعن بعض التيارات الحماسية من دون تجربة، منتظرات أن تتغير أوضاعهن بمعجزات. ولهذا فالجمهور يظل على موقفه السياسي غير متحمس للتغيرات السياسية، أو للاستعراضات، بل يزنها بمقياس مصلحته، ما دام الجميع لا يفكر إلا بمصلحته، لكنه لا يعرف الثمن الباهظ كذلك لهذه السلبية حيث تتفاقم مشاكله وأوضاعه المعيشية سوءا وهو الذي يتصور أنها سوف تتغير، فالتغيير الحقيقي لا يأتي سوى من هذا الجمهور السلبي حين ينفض سلبيته ويعي ويقاتل من أجل خبزه وعياله وغده.
 
صحيفة اخبار الخليج
26 اغسطس 2008