المنشور

البقاء للأصلح‮!‬

قرأت العمود الذي‮ ‬كتبه راشد الغائب في‮ ‬جريدة الأيام‮ ‬يوم الخميس بتاريخ ‮٧ ‬أغسطس بعنوان‮ »٣٦٥ ‬جمعية‮ .. ‬مرحبا‮« ‬حول الجمعيات الكثر المشهرة والعدد الواقف في‮ ‬صفوف الانتظار لتنضم لقافلة تموجات‮ »‬المد والجزر‮«. ‬في‮ ‬النهاية أهلا وسهلا بالجميع في‮ ‬خضم العمل التطوعي‮ ‬غير الحكومي‮ ‬لعل مجتمعنا‮ ‬يستفيد من الطاقات المعطلة والكامنة‮. ‬فهل نتوقف عن تأسيس جمعيات تهمنا نحن البشر بدلا من الجلوس لساعات طويلة في‮ ‬المقاهي‮ ‬لنفث سموم الشيشة أو لعب الورق لوقت‮ ‬يطول ليلا أو الانغماس أحيانا في‮ ‬الشعوذة المبتكرة من التيارات الدينية المتشددة،‮ ‬التي‮ ‬لا تتركك ترتاح‮. ‬إنها‮ »‬مسجات‮« ‬كلها نصائح وعظات مرعبة تذكرك بالنار وعذاب القبور‮. ‬
في‮ ‬مثل هذا النوع من المجتمع الخامل والمعاق بالملل والتأفف والبجبجه،‮ ‬من الضروري‮ ‬أن تولد جمعيات جديدة نافعة وفاعلة ومنتجة،‮ ‬وإذا ما تعثرت وتراجعت كالحضارات التي‮ ‬سادت ثم بادت فذلك أمر طبيعي‮ ‬في‮ ‬تطور الحياة ومجراها،‮ ‬خاصة وإننا دعاة مقولة البقاء للأصلح‮. ‬
المهم أن تتحرك المجموعات الإنسانية وتمارس دورها الاجتماعي‮ ‬حتى وان بدأت نشطة ثم خملت وخمدت إلى درجة‮ »‬الضمور البيولوجي‮!« ‬أو انطلقت بقوة المدفع ثم شلتها الظروف أو تبخرت من تلقاء ذاتها أو نضب‮ ‬ينبوع الحماس لروادها فدخلوا دار العجزة الاجتماعي،‮ ‬أو أنها اكتشفت من تلقاء نفسها أن الدوافع الخفية للتسلق لم تنجح في‮ ‬الوصول لتحقيق الأهداف الخفية،‮ ‬بعد تكشف منطلقاتها وبرامجها وأهدافها المجردة على الورق،‮ ‬غير أنها تنمو وتترعرع بفضل ثقافة العمل التطوعي‮ ‬الصحي‮ ‬وفهم قيمته داخل المنظمات‮ ‬غير الحكومية،‮ ‬وهذه لا‮ ‬يمكن نسجها وتحويلها لكيانات فاعلة داخل مجتمع اتكالي‮ ‬أو مجتمع عاش خائفا داخل قبو الاستبداد،‮ ‬ثم فجأة اكتشف انه‮ ‬يعيش‮ »‬أنوار الإصلاح‮« ‬ومصابيحه الكاشفة فأصيب بالانبهار والدهشة‮.‬
إذ كان النظام سابقا‮ ‬يحرم كل أشكال التجمع ويعتبرها واجهات سياسية للمنظمات التخريبية،‮ ‬فما كان على الجماعات المرتجفة من كل دبيبة في‮ ‬الأرض‮ »‬إلا المشي‮ ‬بمحاذاة الجدار والاحتماء بظله قدر المستطاع‮. ‬فهل بالإمكان‮ – ‬بين ليلة وضحاها خلق منظمات وجمعيات بقيم فاعلة ومفيدة للمجتمع؟‮!«. ‬كانت الاندفاعة قوية‮ – ‬ولا تزال‮- ‬كجزء من تكوين وعاطفة شعبنا إزاء العمل الاجتماعي‮ ‬التطوعي‮ ‬التقليدي،‮ ‬وهو ما‮ ‬ينبغي‮ ‬الحفاظ عليه وتحويله إلى طاقة حيوية وليس مجرد عملية مزاجية تنتفخ كالبالون ثم تنفجر من لمسة عود الثقاب‮. ‬
حاجتنا لجمعيات كثيرة وفي‮ ‬مجالات عدة متنوعة،‮ ‬مثلما حاجتنا لتفجير طاقة الشباب كقوة منظمة جماعية،‮ ‬وليس مجرد مجموعة أفراد نشطاء،‮ ‬إذ باختفاء أولئك النماذج‮ ‬يضمر عمل الجمعية ويتراجع‮. ‬
نحن بحاجة لبناء ثقافة ونهج المؤسسة وليس هيمنة الفرد وجاذبيته،‮ ‬بحاجة لنشر ثقافة ودور عمل المنظمات‮ ‬غير الحكومية والجمعيات النافعة لمجتمعنا والذي‮ ‬من خلال ثقافتها تزدهر الجمعيات وعملها ويبقى روح تلك الظاهرة المجتمعية بصحة وعافية‮. ‬وإذا ما كان البعض مندهشاً‮ ‬من تلك الغيبوبة لبعضها وفي‮ ‬الوقت ذاته‮ ‬يبارك وجودها،‮ ‬فنحن من جانبنا نكمل الفكرة ونكشف بعدها النفسي‮ ‬والسياسي‮ ‬والمجتمعى،‮ ‬إذ‮ ‬يعتقد البعض أيضا أن كل جمعية في‮ ‬مجتمعنا‮ »‬المتمقرط‮« ‬ليست إلا ترفاً‮ ‬اجتماعياً‮ ‬أو علاقة ومصلحة سياسية‮ ‬غير مباشرة،‮ ‬وفي‮ ‬اقل الحالات نزوة تم فيها قرار وولادة تلك الجمعية‮. ‬ولا عجب أن تولد جمعيات تاريخية من رحم فكرة عظيمة سرعان ما تنتشر‮ »‬كالسرطان‮« ‬في‮ ‬جسد المجتمع،‮ ‬وبتعبير كلاسيكي‮ » ‬كانتشار النار في‮ ‬الهشيم‮« ‬وتهيمن عليه‮. ‬
أتذكر حكاية امرأة بحرينية بادرت بالتبرع بمبلغ‮ ٨ ‬آلاف دينار لاحتضان القطط المشردة وبناء مكان لهم،‮ ‬ففغر الناس أفواههم وقالوا‮ ‬يا لها من رحيمة وطيبة ولكن‮…. ‬ولماذا كلفت نفسها؟‮!. ‬هذه القصة نموذج لفاعليات قابلة للتطوير والتشكل وتحولها إلى جمعية مهمة للبيئة والمنظمات البيئية،‮ ‬إذا ما كنا فعلا نؤمن بحضارتنا وإنسانيتنا وعلاقتنا بالطبيعة والكائنات الحية،‮ ‬بل ونفهم فهما عميقا‮ – ‬وليس مسطحا‮ – ‬معنى حقوق الإنسان وحقوق الحيوانات التي‮ ‬تجعل الناس تندهش وتسخر لا مبالية،‮ ‬بل وتتحول المبادرات الإنسانية العظيمة إلى مجرد‮ »‬نكتة‮« ‬سخيفة نسخر فيها ومنها في‮ ‬كل وقت‮ – ‬وبلا وعي‮ – ‬وكأننا نسخر من أنفسنا كوننا بشرا على الأرض بلا فائدة اجتماعية‮. ‬
اعتقد أن البحرين بحاجة للتعلم من التجربة القبرصية في‮ ‬تأسيس جمعية باسم‮ »‬جمعية أصدقاء الحمار القبرصي‮«‬،‮ ‬إذ من المهم أن نفهم مسألة الحفاظ عليه لكي‮ ‬لا‮ ‬ينقرض،‮ ‬ومع الوقت سيكتشف الأخ والزميل راشد الغائب أن عدد الجمعيات التي‮ ‬لم‮ ‬يتم إشهارها قد بلغت ألف جمعية‮. ‬ومع الوقت سنسمع عن الجمعيات التي‮ ‬نبعت كالفطر في‮ ‬لوحة‮ »‬فسيفساء المملكة‮« ‬التي‮ ‬لا تعطب،‮ ‬والمدهشة بولادة الإبداع المنتظر‮. ‬
بلادنا ولاّدة وما علينا إلا احتضان ما‮ ‬ينبثق فيها ونتبرع قدر الإمكان من رواتبنا حتى وان كانت بمائة فلس،‮ ‬ولنبدأ من مدارس الأطفال،‮ ‬فهناك مرتع خصب لبناء فكرة الجمعيات التطوعية المتنوعة وثقافتها الراسخة‮.‬

صحيفة الايام
26 اغسطس 2008