المنشور

تذوقوا «محاسن» الرأسمالية

‘خذوا من السيادة والاستقلال ما تستطيعون هضمه!!’.. بهذه الكلمات خاطب الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين شعوب جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، فكان لهذه الكلمات وقع السحر الذي يدغدغ العواطف للبعض، لكنها (هذه الكلمات) غدت بمثابة الضربات الأولى لمعول تهديم ثاني أكبر قوة بالعالم، ومحوها من الخريطة السياسية فيما بعد، وعلى إثر هذه الكلمات جرت مياه كثيرة، ودماء كثيرة أيضاً، بينما انشغل الحكام الجدد ـ ورثة الاتحاد السوفيتي ـ بتقسيم الإرث وكأنه إرث أبيهم، في تحولاتهم الدراماتيكية من النظام الاشتراكي إلى الرأسمالي، ومن ثم إلى نظام ‘الصيرفة’، وأصبحت مغازلتهم لـ ‘الند الامبريالي’ السابق تدعو للشفقة من فرط ‘الموافقات بلا تردد على ما يمليه عليهم’، حيث كان يلتسين ووزير خارجيته آنذاك يوافقان على كل شيء يُطلب منهما، فأداروا ظهورهم عن القضايا الساخنة في العالم.. والأخطر، ابتعدوا عن ما هو متصل بمصالح بلادهم، وكأنها لا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، فكان ما كان وسط اندفاعة التصفيق الحار والاستحسان الأميركي ـ الغربي ـ الأطلسي، ورضا روسي بتجزئة المجزأ، حتى تم حصار ‘الدب ميشكا’ وعزله بأريحية.
الآن بات واضحاً، أن روسيا اليوم ليست روسيا يلتسين آنذاك، رغم أنها تحمل إرثاً ثقيلاً من عهده، خاصة بعد انفجار الوضع في أوسيتيا الجنوبية بهجوم مباغت جاء بتشجيع وإيعاز من الولايات المتحدة وحلف الناتو، الذي استخدم الرئيس الجورجي ميخائيل سآكاشفيلي كحصان طروادة للمغامرة العسكرية الجديدة ضد هذه الجمهورية الصغيرة، واقتحام قواته عاصمتها تسيخنفالي، وتدمير أحيائها وقتل وتشريد وإصابة عشرات الآلاف من المواطنين الآمنين فيها لساعات معدودات.
هذا الحدث كان تطوراً لأحداث سابقة ولاحقة: في البدء، كان إعلان استقلال كوسوفو عن صربيا من جانب واحد في فبراير/شباط، الذي أحدث جدلاً لا نهاية حول شرعية هذه السابقة التاريخية، وبعد الاعتراف باستقلال كوسوفو عن صربيا، جاء الاجتياح الجورجي لأوسيتيا، ثم الموافقة البولندية على نصب الدرع الصاروخية لتكتمل حلقات محاصرة روسيا، وما بعد.. بعد روسيا، وربما الصين، وظل الروس يتبعون ما أسموه بـ’السياسة الواقعية’، رغم خطورة الوضع وطرق معالجته.
ما عاد لـ ‘خط الوسط’ الذي كان يتبعه الكرملين واختياره برضاه لهذا الخط، إلا وبالاً عليه، ضمن مؤشرات لا تخطئها العين في توسيع الناتو القادم من آلاف الكيلومترات لفرض هيمنته على موسكو ومجال نفوذها القريبة، وكان لا بد أن تعطي هذه الأخيرة رد فعل لا يكون ‘قفزة في الفراغ’ مثلما حدث في البلقان، وما يحدث الآن في القوقاز، والمسألة أبعد من ذلك، حيث تمتد إلى بحر قزوين.
صحيح، أن موسكو لا ترغب في استثارة الخلافات مع واشنطن والناتو، وعليه لم تقدم على خطوات ملموسة للاعتراف بسوخومي (عاصمة أبخازيا)، وتسخينفالي (عاصمة أوسيتيا الجنوبية) رغم امتلاكها الكثير من الأوراق، خصوصاً رغبة الشعبين في تقرير المصير، غير أن هذا الموقف الوسط، وضعها الآن في موقف أخلاقي صعب، فهي من جهة؛ إذا اعترفت بسوخومي وتسخينفالي، فهي تنكث بتعهداتها السابقة للغرب، وإذا لم تعترف فإنها تلغي تعهداتها للشعبين اللذين اكتويا بنيران الإبادة الجماعية من قبل قوات الرئيس الجورجي سآكاشفيلي الموالي لواشنطن، وثالثاً، حماية أوسيتيا الجنوبية التي يحمل (90%) من مواطنيها الجنسية الروسية.
واضح، أن الروس أدركوا المخاطر في وقت متأخر، وتيقنوا بما لا يدع مجالاً للشك، أن واشنطن تريد تثبيت أقدامها على الأرض في منطقة القوقاز وانتزاعها من مجالها عبر عملائها عن طريق ضم جورجيا، أو أوكرانيا لحلف الناتو، وبالتالي إقامة قواعد عسكرية في هذه المنطقة الحساسة بالنسبة للمجال الروسي لحفظ أمنها وأمن الدول المجاورة لها، وعليه، يبدو أن الكرملين لم يعد يسمح بتفريط آخر ولو بعد حين.
 
صحيفة الوقت
25 اغسطس 2008