المنشور

أسوأ أنواع الحلول‮!‬


الذين يدعون إلى المناقشة بالعقل ويتشدقون بالموضوعية ليسوا عقلاء ولا يعرفون معنى الموضوعية.
والذين يطالبون بالعدل لا يدركون مفهوم العدل ولا أبسط قواعد العدالة.
والذين يتدثرون بالحكمة والواقعية والاحتكام إلى المنطق ليسوا بواقعيين ولا يعرفون من الحكمة والمنطق شيئاً.
والذين يزعمون أنهم يرحبون بالنقد ويدعون إلى التمسك بحرية الرأي والتشبث بالديمقراطية لا يعترفون بالآخر ولا بحقه في الاختلاف معهم، ولا يتقنون أصول الديمقراطية.
والذين ينبذون الطائفية علناً يمارسون الطائفية سراً وباسم الطائفية يمررون مصالحهم ويعززون نفوذهم.
والذين ينهون عن المنكرات ويعتقدون بأنهم أنقياء من كل عيب ومعصومون من كل خطأ يأتون بما يندى له الجبين خجلاً من عيوب وأخطاء.
والذين يحاضرون عن العفة والنزاهة هم أبعد ما يكونون عن العفة والنزاهة.
والذين يعيبون على الآخرين اقتراف التجاوزات بلغوا أسفل الدرك في تجاوزاتهم.
ومن احترفوا الحديث عن المسؤولية تخلوا عن الزامات والتزامات المسؤولية وانغمسوا في منطق البطانة والحاشية.
والمسؤولون الذين يعلنون بأن أبوابهم مفتوحة للجميع هم الذين أوجدوا سداً منيعاً من الجفوة وعدم الثقة مع الناس.
والذين يرفعون راية محاربة الفساد يتناسون أنهم فاسدون حتى النخاع وأنهم جعلوا كل مال عام سائباً.
والذين يزعمون بأن رؤاهم في كل ما يخص شؤون الوطن والعباد رؤى وطنية خالصة هم الذين لا تلج مشكلات الوطن إلى وجدانهم وهم الذين يشحنون مجتمعنا بكل ما يوتر ويقسم ويطأفن.
والذين يتحدثون عن الشفافية هم أول من يحجبون المعلومات عن الرأي العام ويوغلون في تغييب الشفافية في الأرقام والميزانيات والمعلومات.
والذين يتباكون على سيادة القانون هم أول من اعتدوا على سلطة القانون وغيبوا حاكميته.
والنواب الذين ينتقدون السلطة التنفيذية علناً هم الذين وجدناهم من دراويش السلطة ومريديها.
والنواب الذين يتحدثون دوماً عن الوحدة الوطنية هم الذين تعودنا منهم أن يزرعوا الألغام في طريق الوحدة الوطنية.
ومن يزعمون أنهم يأخذون بيد مؤسسات المجتمع المدني وسندهم الفعلي ضبطوا متلبسين بضرب هذه المؤسسات وافتعال العراقيل أمامها.
والذين يتحدثون عن المبادئ انحازوا إلى نقيض هذه المبادئ وكل ما رفعوه من شعارات.
والذين يزعمون أنهم يحموننا من أعداء الديمقراطية لا يرون في الديمقراطية إلا قوالب جوفاء وعبارات طنانة رنانة.
هل تتصورون مشاكل اعقد من تلك المشاكل، ثم لماذا تبقى مشاكلنا الصغيرة برمتها قبل الكبيرة برمتها لا حلول لها لا حاسمة ولا نهائية ولا مبدئية ولا حتى أولية، وعاجزون عن اقتحامها بكل مفردات المواجهة الشجاعة للمشكلات، ثم ألا ترون أن أكثر ما يبعث على الصدمة حيناً والمرارة حيناً في التعاطي مع هذه المشكلات حينما أخضعت هذه المشكلات للمزايدة وتهييج المشاعر، لتتحول المشاكل الصغيرة إلى مشاكل كبيرة معقدة، والمعاينة اليومية لواقع الحال ستكشف ذلك، وقد تكشف ما هو أخطر.
صحيح أن بعض المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية أصبحت من لزوميات حياتنا، وربما لم يعد البعض يتصور أن نعيش من دون حضورها الدائم في حياتنا وواقعنا، ولكن الصحيح أيضاً أن البعض يتعامل مع مشاكلنا كأنها غير قائمة أو هوّن من شأنها واعتبرها غير مهمة، أو راهن على الزمن لحلها.
مشاكل من نوع الفساد، والبطالة، والوضع المعيشي، والتضخم، والفقر، وإدارة الأصول العامة المملوكة للدولة، والملف الإسكاني، والتجنيس، ومستوى مخرجات التعليم، وبطء العدالة، وتلوث البيئة، والتنمية الاجتماعية، وإهدار القيم، وتكهين الكفاءات وفقدان الموضوعية في اعتلاء الوظيفة العامة، والمواقع القيادية، وانحراف ثقافة الوظيفة العامة والتطاول على المال العام، واستغلال النفوذ، وموجة التغريب العاتية، ولا حاجة إلى الاستزادة، فنحن لسنا في حاجة لا أن نناقش كل مشكلة ولا أن نبحث في الوقائع والخرائط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أفرزتها، فذلك موضوع مختلف عما نحن فيه، ولكننا في حاجة إلى التنبيه إلى أن المنحى الذي تأخذه المشاكل يفرض حواراً ومبضعاً والماماً بكل أبعاد ومسببات تلك المشاكل، والتخلي نهائياً عن إخضاع إدارة أية مشكلة لمقتضيات عقدة التأجيل أو فكر التماس الذرائع الذي يسّوف ويؤجل مرة تلو المرة أي تعامل جاد مع مشاكل المجتمع، وان جرى أي تعامل فإنما بشكل يؤدي إلى تفاقم المشكلات، وبذلك تطل علينا مشكلة أخطر، وهي أننا نواجه المشكلة بالمشكلة، والأزمة بالأزمة، ونداوي الداء بالداء، ونتبع الإخفاق بالإخفاق، ولا أحد يعترف بالمشكلة، ولا بالإشكاليات المنبثقة عن المشكلة، وكأنه قد كتب علينا مواصلة لعبة الفشل أو المواصلة في معالجة مشاكلنا أما بالبهرجة الإعلامية والمواقف الخاوية، أو الوعود الممنوعة من الصرف أو المعالجات المفككة، أو بإنكار ونفي المشكلة إلى أن نضطر للاعتراف المخفف بها مكتفين بمداواة الأمراض بالمسكنات.
أسوأ الحلول للمشكلات والمعضلات الأساسية هي تلك الحلول التي تعلق على شماعات الإمكانيات المادية، أو غياب التخطيط، أو نتذرع بأنها تحت الدراسة، أو تم إحالتها إلى لجنة، ولا ينبغي أن نلام إذا شككنا في صدقية وجدوى كل تلك المعالجات.
أسوأ أنواع الحلول أيضاً هي تلك النابعة من أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أهل الحل والعقد ومعنيين بحل المشكلات التي تواجه الناس من مسؤولين أو نواب وحتى بعض من يعتقدون بأنهم يمثلون قوى المجتمع المدني ممن يتحدثون عما يعتري المجتمع من ضعف وما يعترضه من مشاكل، وكأنهم مبعوثوا العناية الإلهية لإنقاذنا، ومن يتمتع بقدر وافٍ من البصيرة والفطنة لن يصعب عليه أن يكتشف بأن كل واحد من هؤلاء الذين يزعم أنه يحاول حل عقد المجتمع بأنه عقدة في حد ذاته ومشكلة من مشكلات المجتمع وعبء عليه، ولا يمكن أن يكون أي منهم في يوم من الأيام جزءاً من الحلول دون أن ننسى أن كثيرين من هؤلاء أخضعوا الحلول الحقيقية لتجاذبات ومقايضات ومساومات، وآخرين لا نجد منهم سوى أنه كلما شارفنا عتبة حل مشكلة ما ظهر لنا منهم من يبشرنا بعقبات تبعد الاقتراب من أي حل، وإن لوحوا بحلول في أحسن الأحوال، فإنما بالحلول الأسوأ من أجل أن نقبل بالسيئ..!!.
المهم في كل عناصر المشهد أن مسؤولية مواجهة هذه المشاكل التي يزخر بها واقعنا أسندت في كثير من الأحيان إلى مسؤولين أقل ما يمكن أن يقال عنهم بأنهم كانوا جزءاً من المشكلة ولم يكونوا يوماً جزءاً من الحل، ويمكن أن نضيف بأنهم لم يسجلوا رصيداً حقيقياً في العمل القائم على الأفكار والإبداع والتنظيم والإنجاز، وهذا هو بيت القصيد.
ومن دون أن نقع في فخ التعميم فإن القراءة المتأنية التي يمكن أن نستنتجها من مراقبتنا للمشهد فسوف نلاحظ أن ثمة مسؤولين أبتلينا بهم من نوعية:
] مسؤولون يتهربون من مسؤولية تبعات أي مشكلة ويتقاذفونها مع آخرين، وباتوا محترفين في التملص من المسؤولية واستطاعوا أن يتفننوا في ذلك، أو أن يخففوا على الأقل تبعاتها على أنفسهم، أو أن يجعلوا آخرين شركاء لهم في تحمل المسؤولية، وارجعوا بذاكرتكم إلى كارثة غرق سفينة الدانة التي راح ضحيتها العشرات فهي خير مثال على ذلك.
] مسؤولون يصرون بأن يظهروا وكأنهم لا يعملون ولا يتحركون ولا يؤدون واجبهم ولا يحققون إنجازاً يفترض أنه ضمن مسؤولياتهم وواجباتهم إلا بتوجيه أو تكليف أو أوامر من فوق، وجعلوا حل كل مشكلة صغيرة أو كبيرة لا يتم إلا امتثالاً لأوامر فوقية.
] مسؤولون عودونا ألا نصدقهم لأنهم يقولون دوماً كلاماً يخالف الواقع ودأبوا على الكلام والوعود والأمنيات والتصريحات البراقة، وعجزوا عن تحقيق إنجازات ملموسة.
] مسؤولون من نوع مدعي الأهمية الذين يعانون من تضخم في الذات ولا يجلسون إلا في لقاءات تغدق عليهم النرجسية، ويعتقدون أن الناس تلتف حولهم وتحتهم.
] ومسؤولون بات ملحاً إنقاذ الناس منهم، ومن بيروقراطيتهم، ولما يثيرونه حولهم من قيل وقال.
] ومسؤولون نجحوا في الدخول إلى »دائرة عالم النسيان« ولا أحد يسمع عنهم »حس ولا خبر« رغم أن كثيراً من المشاكل والمواقف كانت تستدعي ظهورهم.
] مسؤولون لا هم لهم إلا القفز داخل العدسات والكاميرات وألسنتهم تنطلق في رشاقة ومرونة للإدلاء بالتصريحات أو إصدار البيانات الصحفية التي تشيد بهم وبعطائهم.
ونوعيات أخرى كثيرة من المسؤولين، ولكن السؤال:
هل يمكن أن نعوّل على هكذا نوعية من المسؤولين في المراجعة والتدبر والتشخيص الصحيح والحلول المدروسة لمشاكل وقضايا المجتمع؟
هذا هو السؤال، وإن كنا نعلم جيداً أن المشكلة الكبرى بدأت حينما جلس على مقاعد المسؤولية من لم يعرفوا شيئاً عن المسؤولية ومعناها، بل وكانوا جزءاً من هموم ومشاكل مجتمعنا ولم يكونوا يوماً جزءاً من الحلول، هذه هي المشكلة والطامة الكبرى، وما على المعنيين بالأمر إلا أن يدركوا أن المرحلة والأوضاع الراهنة والمقبلة لا تحتمل هذا العبء، ونسأل الله السلامة.
 
الأيام 22 أغسطس 2008