المنشور

البترول رأس مال العرب (13)

غيبتْ شركاتُ النفطِ الحكوماتِ في المنطقة إلى درجةٍ شبه كلية، ويقول الباحث الانجليزي تيورنر (خلال القسم الأكبر من القرن الحالي (يقصد العشرين) كان دور الدول المنتجة ضعيفاً في إدارة صناعة النفط). كيف لا والشركات غدت تتحكم في العمالة المحلية كيفما شاءت سواء بالسكن لديها أم في مضاربها أم مدنها أم إذا وضعتْ لها عششاً قربها كما فعلتْ شركةُ بابكو في الثلاثينيات في البحرين، وبأي أجور حددتها الشركات وأي مدة رأتها وبأي معاشات تقاعد زهيدة فرضتها. كما يحق لها القيام بكل العمليات الجيولوجية والاستخراجية سواء في البر أم البحر، في البادية أم في عمق الصحراء، وفي أي زمن ومكان، وتستطيع أن تحدد حجم رأسمالها ومدة وجودها وطرق مواصلاتها وأن تبني مدناً لها وتصممها كما تشاء وتسكن فيها من تريد، وزاد بعض الشركات قوة فشكلتْ قوى مسلحةً!
ويحق لها كذلك الاحتفاظ بالمعلومات الثمينة عن الأرض وجيولوجيتها الخاصة، وحتى الآن في سنة 2008 لم تفصحْ شركاتٌ كثيرةٌ عن خرائطها الجيولولجية وبقيت الأعماقُ الأرضيةُ العائدة لدولٍ عديدة وشعوبٍ كبيرة لا تـُعرف من قبل أهلِها وماذا يجري في باطن تربتها! كان امتياز شركة بترول العراق يغطي كل أراضي الجمهورية، وكانت أراضي دولتي الكويت والبحرين خاضعتين لتصرف كل من الشركتين المتصرفتين في حقولهما النفطية، وكانت شركة أرامكو تسيطر على 880 الف كلم متر مربع من أراضي المملكة العربية السعودية. وبطبيعة الحال كان لهذا الوجود الاقتصادي الهائل المتغلغل في باطن الأرض آثاره على سطحها فظهرت مدنها الخاصة بموظفيها المميزين الذين يعيشون في بيئة غربية حيث المدينة الملأى بالأشجار الغابية والخدمات الترفيهية العالية التي تضارع ما يجري في بلدانهم الأصلية في حين يجاور هذه المدن خيام البدو أو عشش العمال! وازداد نفوذُ الشركات النفطية فرأت أن من الخطورة ألا تكون لها حماية عسكرية وسياسية عالية، فعملَ بعضُها على توثيق علاقة بلدها الأصلي ببلد الموقع، فأوجد بعضها قنصليات خاصة قرب المدن النفطية أو سبّب في نشوء قواعد عسكرية، وهذه العملية لم تجر إلا بعد سنوات، ففي البدء لم تدركْ حكوماتُ الغرب الأهميةَ الحيويةَ للنفط العربي وضخامته، ودوره المستقبلي العالمي الكبير، فامتنعت عن توثيق العلاقات السياسية والعسكرية وتوسعها، ثم انقلب الحال بعد نجاح الشركات النفطية في جلب المليارات من الدولارات، فغدت شركة أرامكو مثلاً أكبر شركة خارج الولايات المتحدة نفسها من حيث ارتفاع نسبة الأرباح، فبدأت حكوماتُ الولايات المتحدة المتعاقبة تغيرُ سياستها، منذ إعلان كون الخليج العربي والجزيرة العربية منطقة حيوية للولايات المتحدة، إلى أن تنامى نشوء القواعد العسكرية وتدفق الأساطيل. هذا التفرد الغربي المالي والسياسي لم يكن مطلقاً، فقد بدأت حركة التحرر العربية والإسلامية في دك هذه الجدران الخراسانية الهائلة التي صنعتها الشركات، بسبب هزالة ما تقبضهُ الشعوبُ العربية والإسلامية من هذه الثروة الفاحشة، فحتى سنة 1961 كانت هذه الشعوب لا تحصل من مشتقاتها النفطية المُباعة على أوروبا الغربية سوى على 5،6% وكان هذا نموذجٌ باهرٌ للطمس والتحايل. بدأت العاصفة من إيران بثورة مصدق التي فشلت بعد تآمر شركة النفط عليه، ثم عبر تصاعد حركة التحرر الوطني العربية التي وجدت لها شكلاً حيوياً بحركة العمال واضرباتهم في السعودية في سنوات الخمسينيات ثم في الحركة العمالية البحرينية خلال الفترة نفسها والتي توجت بانتفاضة 1965 المطالبة بعودة عمال بابكو المفصولين، وحدث انعطاف بعد ذلك بإعلان الحكومة العراقية تأميم النفط، ثم تبعتها الحكومة الليبية، ثم تصاعد دور الحكومات العربية والإسلامية وبعض حكومات أمريكا اللاتينية في الصراع مع الكارتل النفطي الدولي، والذي تجسد في قيام منظمة أوبك التي راحت تفاوض شركات النفط على حلول وسط، ثم جاءت حربُ أكتوبر المصرية واستخدام العرب لسلاح النفط، هذا القار المهمل الذي غدا فجأة سيفاً على رقاب العواصم الغربية! وبعدها تغير التاريخُ النفطي الظاهري في المنطقة كلها والعالم، ولم تعد عشش العمال وبيوتهم الصغيرة ولا القيم الزهيدة المعطاة للدول ولا الاتفاقيات المعقودة في زمن الظلام بمقبولة وآن لكل شيء أن يتغير! ولكن إلى أي مدى حققت هذه الانتفاضةُ الوطنية من الحكومات العربية والعمال والشعوب دورها في إعادة النظر في هذه البضاعة التاريخية المؤقتة؟ وهل إعادتْ النظرَ جذرياً في دورها أم أن البناء الاجتماعي التقليدي سوف يلعبُ دوره كما لعب خلال القرون الماضية في تكييف هذه البضاعة الحديثة لتضاريسه العتيقة ويجيرها للتخلف والتبعية كما هي عادته؟ وتغدو العماراتُ الشاهقة زائفةً في علوها ومادتها، والفيضُ النقدي يأبى إلا أن يصلي للغرب. هذا ما سنقرأه لاحقاً.
 
صحيفة اخبار الخليج
18 اغسطس 2008